يقول الكتابُ المقدَّسُ: "أمَّا ذلكَ اليوم وتلكَ الساعة فلا يعلم بهما أحدٌ، ولا الملائكةُ الذين في السماء، ولا الابن إلا الآب" (مرقس 13: 32). لقد أثارَ هذا النصُ الكثيـرَ من الجدلِ عبرَ التَّاريخ. كان هذا النَّصُ موضوعَ دراسةِ الكنيسةِ لمئات السِّنين. أرادت الكنيسةُ أنْ تفهمَ هويةَ السيدِ المسيح بناسوته ولاهوته. واستثمرت الكنيسةُ مئاتَ السنين لتكتشف طبيعةَ سيدها. فناقشت النصَ قيدَ الدِّراسةِ في السِّياق الآريوسي. (1)
أنكرَ الآريوسيون مساواةَ الابن للآب في علمه وبالتَّالي في لاهوته. واستمر الجدلُ في النّقاشِ معَ النسطورية إذ كان التحديُّ متعلقاً بكيفية فهمِ المسيح الواحدِ في طبيعته البشرية والإلهية واتحادهما. ثمَّ ظهرَ الجدلُ مرةً أخرى في الحوارِ والنقاشِ مع الإسلامِ الذي ينكرُ ألوهيةَ المسيح. وربما يظنُّ البعضُ أنَّ الآبَ وحدَه يعرفُ بينما يجهلُ الابنُ والروحُ القدُّسُ أيضاً! ويبقى السؤالُ، من يكون يسوع المسيح وما هويته في إنجيل مرقس؟ وكيف نستطيع أن نفهم مرقس 13: 32؟
أستهلُ حديثي بالتَّشديد: أنَّنا نتعاملُ مع ترجمةٍ عربيةٍ لنصٍ يوناني وأنَّ مدلولَ الكلمات اليونانية يرتبطُ بأكثرِ من احتمالٍ تفسيري كما سنرى أدناه. سأطرحُ عدةَ تفاسيـر ظهرت عبر تاريخ الكنيسة. (2)
(1) يعتمد التفسيرُ الأولُّ على كلمةِ "إلا" أو الكلمتين اليونانيتين (إي مي) في مرقس 13: 32. ولقد اقتـرح باسيلُ القيصري (Basil of Caesarea) في القرنِ الميلادي الرَّابع أنَّ كلمةَ إلا يجب أن نفسرها "لو لم". ونجد هذا المفهوم في ترجمة الفاندايك – بستاني في أكثر من مكانٍ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول المولودُ أعمى في إنجيل يوحنا: "لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً" (يوحنا 9: 33). إذاً، الترجمةُ "لو لم" محتملةٌ. وهكذا ربما يكون المقصود هو: أنَّ الابنَ لم يعرفْ الساعةَ لو لم يُعلن له الآبُ ذلكَ. وتصبح ترجمةُ الآية كما يلي: "أما ذلكَ اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء. ولا الابن لولا الآب." فالآية لا تتحدثُ عن عدمِ معرفة الابن بل العكس هو الصحيحُ. ووسيلةُ معرفة الابن هي إعلانُ الآب له. هذا التفسير اللغوي في إنجيل مرقس محتملٌ لا سيّما عندما يشرح القديسُ جيـرومُ أنَّ معرفةَ الوقت تبـرُز ليس في الآية 32 فحسب بل في الآية 33 أيضاً، إذ يقول النَّصُ: "أنظروا! اسهروا وصلوا، لأنكم لا تعلمون متـى يكون الوقتُ" (مرقس 13: 33). ولا يقول النصُ لأنَّـنـا لا نعلم شاملا المسيح، بل يتحدث عن عدم علم التلاميذ فقط (3) وربما يعتـرض أحدهم مقتبساً متـى 24: 36 الذي يقول: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السماوات، إلا أبي وحده". يزيل متى قضية الابن ويجعل الآب وحده صاحب المعرفة. يشرح باسيلُ أن المقارنة قائمةٌ بين فئتتين. في إنجيل متـى، البشر والملائكة يمثلون الفئةَ الأولى ويمثّلُ الآبُ الفئةَ الثانية، أما في مرقس فالآب والابن معاً يمثلون الفئة الثانية.(4) ولهذا يبقى تفسيرُ باسيل شرعياً.
(2) يعتمدُ التفسيرُ الثاني على كلمة "يعلم". في القرن الخامس، اقتـرحَ أغسطينُ أنَّ مدلولَ كلمة "يعلم" هو "يُعلن". وهكذا لن يُعلن أحدٌ ذلك اليوم وتلك الساعة إلا الآب. لن يُعلن الابنُ تلك الساعة. ووضّح أغسطين موقفَه عندما شرح تكوين 22: 12. يقول النصُ: "لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك خائف الله". لقد علم اللهُ أنَّ إبراهيمَ خائفُ الله. لا يعني ذلك أن معلومات اللهِ ازدادت أو أنَّه كان في حالة عدم معرفة بل الأفضل أن نفهم المدلول في ضوء طاعة إبراهيم العلنية، أي أنَّ إبراهيم أعلن لله طاعتَه ومخافتَه بعمله. ويضيف أوغسطينُ مثالاً آخرَ من تثنية 13: 3. يقول النص: "فلا تسمع لكلام ذلك النـبـي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" (5) وهكذا نتـرجم الآية: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلنهما أحدٌ، لا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن بل الآب" ويكون مدلولُ النصِ الأوسع أننا يجب أن نسهر ونكون مستعدين كلَّ الوقت لأن اللهَ لم يُعلن يومَ مجيئه.
(3) التفسيرُ الثَّالثُ مرتبطٌ بمدلول الكلمتين "الابن" و "الآب". في القرن السادس اقتـرح جريجوي (Gregory of Tours) أنَّ مدلولَ الكلمةِ "الابن" و "الآب" مرتبطٌ بالمسيح والكنيسة. فيجب ألا تكون كلمة "الآب" مع المدة بل "الأب" باستخدام الهمزة. وهذه قضية محتملة لا سيَّما في مخطوطات الحرف اليوناني الكبيـر ونستطيع أن نضعها في اللغة الانكليزية لإبراز الفرق. الفرق هو بين son و Son أو بين father و Father. أما باللغة العربية فالفرق واضح بين آب وأب. وهكذا تكون الترجمة: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الأب". من هذا المنظور التفسيري، الابن هو كل ابن للمسيح. المسيح هو الأب والديان في يوم الدينونة. ولقد اقتبس جريجوي عدة نصوص تُظهر أبوّة المسيح للكنيسة. فعلى سبيل المثال، نجد هذا التوجه في يوحنا 13: 33 "يا أولادي، أنا معكم زمانا قليلا بعد" ، وعبـرانيين 2: 13 "ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله".
(4) التفسيرُ الرابع يتعلق بناسوت المسيح. اقتـرح أثناسيوسُ الأسكندريُّ في القرن الرابع تفسيراً لاهوتياً بدلاً من التفاسير اللغوية أو المجازية. من هذا المنظور، يتحدَّث النصُ عن محدودية الطبيعة البشرية عند السيد المسيح. ويستند هذا الموقف على نصوص أخرى تبين ناسوتَ المسيح. فعلى سبيل المثال يقول لوقا: "أما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة، عند الله والناس" (لو 2: 52) وأنه "تعلّم الطاعة مما تألم به" (عبـرانيين 5: 8) (6)
(5) يعتمد التفسيرُ الخامسُ على خلفياتٍ حضاريةٍ للزواج عند اليهود. يشرح راي بنتلي هذا الأمر. (7) عندما يريد العريسُ أن يخطبَ عروسَه يذهب إلى أبيها مع أسرته. يأخذ معه نبيذاً وعقد الخطوبة والمهرَ. تصبح العروسُ زوجتَه ولا يتمُّ الزواجُ كلياً حتَّى يومَ الزفاف. وقبل الزفاف، يبنـي العريسُ غرفةَ الزواج. وعندما ينتهـي من البناء يستطيع أن يعودَ لعروسه. يقررُ أبو العريس وحده إن كانت غرفةُ العرسِ جاهزةً. ولهذا لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يعرفَ يومَ العُرس إلا الأب وحده. فهو الذي يحدد الساعةَ واليومَ للعُرس. ولقد اقتـرح البعضُ أنَّ هذه الخلفية مفتاحُ فهم قول المسيح: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب." (مرقس 13: 32). وهكذا لا يحتاج النصُ إلى التدقيق في الترجمةِ أو النقاش اللاهوتي بل إلى فهم الخلفية الحضارية.
لا شك أن النصَ صعبٌ ولكننا يجب أن نحذرَ من عدة أمور. أولاً، ليس من الحكمةِ أن نصرف موقفَ مرقس المتعلق بهوية المسيح كابن الله. ويتحدث مرقس 13: 32 عن البشر والملائكة والابن والآب. ومن الواضح أنَّ الابنَ في رُتبةٍ أعلى من البشر والملائكة في نظر مرقس. فهو الذي يرسل الملائكة (مرقس 13: 27) وهو ابن الله. ويستهلُ مرقسُ إنجيلَه بهذا المصطلح (ابن الله) ويُعادل المسيحَ الابن بالرب يهوه منذ آياته الأولى (مرقس 1: 3). ومن غيـر المناسب أن نبـنـي عقيدةً كنسية من آيةٍ دون الرجوع إلى باقي السفر والكتاب المقدَّس.
ثانياً، يجب أن نفهم السِّياقَ ونفسِّر النَّصَ في السياق. فمن الواضح أنَّ الزمنَ في مرقس 13 مهمٌ. سأل التلاميذُ: "متى" (مرقس 13: 4). وظهر الزمنُ عبـرَ الفصل من خلال التعابير "المنتهى (آ 7)، مبتدأ (آ 8)، أولاً (آ 10)، منتهى (آ 13)، تلك الأيام (آ 17، 19، 20، 24)، قريب على الأبواب (آ 29)، لا يمضي هذا الجيل (آ 30)، ذلك اليوم وتلك الساعة (آ 32)، متى يكون الوقت (آ 33)، متـى يأتي رب البيت (آ 35)". هذه بعض الأمثلة التي تؤكِّد اهتمامَ النص بالوقت. اهتمامُ التَّلاميذِ متمحور حول وقت الحدث أما اهتمام الرب فهو بالاستعداد الصحيح. ولقد وصف النصُ تتطور حصر الوقت. فتحدث عن المنتهـى أو الدهر ثمَّ عن "تلك الأيام" ثمَّ الشتاء ثُمَّ الصيف ثُمَّ اليوم ثُمَّ أجزاء اليوم. وطلب منا باستمرارٍ أن ننظر ونقيِّمَ ونفهمَ إرادةَ الله.
ثالثاً، ركَّزَ السياقُ على مجيء ابن الإنسان. ولقد ذُكر هذا المصطلح في مرقس 8: 38، 13: 26، و14: 62. وهو مصطلحٌ يرتبطُ بقدوم الرَّبِ صاحب حقِّ الدينونة وإرسال الملائكة. وقدم النصُ هذا المصطلح في سياق الحديث عن المسيح الذي هو ربُّ داودَ وسيده (مرقس 12: 37). وقدمَ النصُ حديثَ المجيء الثاني في شرحٍ اسخاتولوجي أو أخروي ثُمَّ في مثلٍ وتشبيه. فتحدثَ عن شجرة التين التي تصفُ الموسمَ وعن رب البيت الذي يحدّدُ ساعةَ مجيئه.
في ضوءِ السياق المرقسي ولاهوته الكريستولوجي الواضح والتفاسير المتنوعة والشَّرعية التي قدمها آباءُ الكنيسة عبر العصور، أعتقدُ أنَّه من غيـر المقبول الافتراض أن هذا النص يتناقض مع الإيمان المسيح أو مع ألوهية المسيح. لقد قدمنا في هذا المقال عدة احتمالاتٍ تفسيريةٍ شرعيةٍ تتوافق مع نظرة مرقس الكريستولوجية ومع باقي العهد الجديد. ولو سمح الوقت لقدمنا المزيد من الأدلةِ لكنَّنا نرجو أن تكون هذه الأدلة كافية. والشكر لله.
1) Kevin Madigan, “Christus Nesciens? Was Christ Ignorant of the Day of Judgment? Arian and Orthodox Interpretation of Mark 13: 32 in the Ancient Latin West,” Harvard Divinity School 96:3 (2003): 255 – 278.
2) Francis Gumerlock, “Mark 13: 32 And Christ’s Supposed Ignorance: Four Patristic Solutions,” Trinity Journal 28 (2007): 205 – 213.
3) Madigan, 270.
4) Cumerlock., 205-206.
5) Ibid., 207.
6) Ibid., 212.
7) Ray Bentley, The Holy Land Key (Colorado Springs: Waterbrook, 2014), 162. See also, John Klein, Adam Spears, and Michael Christopher, Lost in Translation: Rediscovering the Roots of Our Faith (Bend: Covenant Research Institute, 2007), 68.