صارعت الكنيسةُ عبر التَّاريخ في بناء علاقةٍ صحيةٍ مع الدَّولة. ومن أجل التبسيط أخاطر في هذا المقال بسرد حقائق كبيرة بكلمات قليلة. لقد ظهر عبر التَّاريخ العديدُ من الأنماط التي تصف علاقة الكنيسة بالدولة. أولاً، اضطهدت الدَّولةُ أتباع السيد المسيح. ونجد هذا النمط واضحاً زمن الرُّسل إذ تحدى الأباطرة الرومان كنيسة المسيح. وصارعت الكنيسةُ أمام السُّلطة اليهودية الَّتي حكمت الهيكل وأصدرت الفتاوي ضدَّ أتباع المسيح. وصارعت الكنيسةُ أيضاً أمام طلبات رؤساء الهيكل. في ذلك الزَّمان صرّح أتباع المسيح أنه ينبغي أن يُطاع الله أكثر من النَّاس. فلو طلبت الحكومةُ طلباً يتعارض مع مشيئة الله المُعلنة في كلمته وطبيعته وخليقته وتاريخ تعامله فعندئذٍ يجب أن تقف الكنيسةُ وقفةَ أسدٍ ضدَّ الشَّر ووقفة الحمل المذبوح الذي كان مستعدا أن يذهب إلى الصَّليب بدلا من إرضاء كراسي رؤساء أورشليم وأباطرة روما.
ثانيا، بعد أن تحوّل الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية جعل المسيحية دين الدولة. وهكذا صار الدين المسيحي قانوناً يسري حتى على جميع سكان الإمبراطورية. وبدأت الكنيسة تُعاني من الطمع والجشع وحُب التسلط والاستعلاء. فتحوَّلت روحانية الكنيسة إلى روحانية النزاع والتنافس. وهكذا صارت الدولة فخاً للكنيسة بدلا من أن تكون بركة ربانية لردع الشر ونشر الخير الاجتماعي والأخلاقي.
ثالثاً، بسبب سيطرة الدولة ورجال الدين المُتعاطفين مع الدولة قرر بعض أتباع المسيح أن يسعوا إلى فصل الكنيسة عن الدولة وبالتالي فصل الدين عن الدولة. لقد أرادوا أن تكون الكنيسة مستقلة في قراراتها وعقيدتها وشؤونها. لا يريدون من الدولة أن تتدخل في تفاصيل العبادة. ولقد بدأت سلسلة من التغيرات بعد مجيء الإصلاح البروتستنتي وظهور حركات الكنائس الراديكالية الحرة.
رابعا، لقد اكتشف العديد من الناس أنَّ فصل الكنيسة عن الدولة لا يعني فصل القضايا الروحية عن القضايا السّياسية. فالدولة تسعى إلى تنظيم أخلاقيات المجتمع والزواج والإجهاض والطب والمحاماة والعديد من القضايا التي لها بُعد ديني. ولهذا بدأت الكنائسُ في تطوير روحانية سياسية إذ تسعى الكنيسةُ إلى الحديث عن القضايا الأخلاقية من منظور إيماني. وتسعى إلى نشر هذا المنظور في المجتمع وإلى تحفيز أتباعها على تشجيع الأطر السياسية التي تتعاطف مع الأخلاقيات الكنسية المقبولة.
وما زال إنسان القرن الحالي يبحث عن كيفية تشكيل العلاقة الصحية بين الإيمان والسياسة، بين الدين والدولة، وبين الكنيسة والحكومة. لا شك أن القرارات العملية التي تشمل تأشيرات الدخول وقوانين الضرائب والمعاشات والتسجيل الرسمي تستلزم من الكنيسة خضوعا لقوانين الدولة. في ذات الوقت لا شك أن الكنيسة غير مدعوة أن تكون أداةً تلعب بها الدولة بل هي صوت الله النبوي وصوت المحبة والسلام حتى ولو تتطلب الأمر مواجهة الدولة. وليست الكنيسةُ صوت شعبٍ محدد بل صوت الله وملكوته لكل البشر.
في ضوء هذا الفكر، نعيش اليوم في إسرائيل واقعا فَرَضَ على الكنيسة وغيرها من المؤسسات التوقف عن العمل كالمعتاد لأسباب سياسية وطبية. وهكذا قرر السياسيون كيف تجتمع الكنيسة ومتى تجتمع وحجم اجتماعها. وأثّرت هذه القرارات على عدة مفاهيم لاهوتية: (1) اختارت الكنائس نموذج الخضوع للدولة، تقريبا في كل شيء دون مساءلة ودون فحص ونقاش لاهوتي وافٍ (2) قزّمت الكنيسة أهمية اللقاء الشخصي ولم تفكر بشكل كافٍ بدعوة الله إلى عدم ترك الاجتماعات الكنسية. وماذا عن حضور الله في جماعة المؤمنين وكيف يكون هذا الحضور خارج التدبير الإلهي المُعتاد؟ (3) بدأت الكنيسة بالحديث عن مشاركة العشاء الرباني عبر الشبكة العنكبوتية دون فحص التداعيات اللاهوتية لهذا الأمر. (4) صارت الكنيسة أسيرة للقرارات الحكومية وفقدت صوتها النبوي ونورها وسط ظلمة الأحداث وانتشار البروباغاندا السياسية. (5) فترت الخدمة الراعوية بسبب التباعد الاجتماعي. وبينما يعاني الشعب من البطالة والفقر والاكتئاب والمرض والخوف والعنف الاجتماعي تراجعت الكنيسة في مجهوداتها بدلا من زيادة استثمارها في خدمة سيدها. (6) لم تقدم الكنائس دعوة للعطاء والتطوع فتعطل جزءٌ من عبادتها إذ يُكرِمُ أهلُ الكنيسةِ ربهم بواسطة العطاء المالي وعطاء الوقت والخدمات الكنسية.
أدعو الكنيسة وقادتها إلى إعادة فتح ملف الحديث عن علاقة الكنيسة بالدولة. أدعو الكنيسة إلى التفكير الجدي واللاهوتي بروح الإيمان والصلاة والاستنارة الربانية أن تحدد رسالتها وموقفها من آليات اتخاذ القرارات الحكومية التي تتعلق بها ومن مضمون هذه القرارات ومدى قبولها أو رفضها. في الختام، لقد أكد السيد المسيح أنه سيبني كنيسته ولن يقف بوجهها أي قوة مهما كانت فستنمو الكنيسة وتزدهر برعاية رب الكون فادينا يسوع المسيح. ولكنها تنمو وتزدهر أيضا بأمانة شعبها واستنارة فكرها ودفء حبها وخدمتها وتضحيتها زمن الصعوبات. يا رب ارحم!