تفقد الإنسانية قيمتها عندما يبحث طفل يتيم مستجدي عن شيء يأكله فلا يجده، أو عن سرير دافئ ليلفّه ويحتضنه فلا يجد سوى الحجر وسادته الناعمة والسماء بطانيته الدثرة! ومع الأخبار المنتشرة بسهولة وسرعة فائقة أجدني مشدوهة الفم باستمرار من الوضع المتردي الذي يؤول إليه حال العالم أجمع دون استثناء. لم يعد الأمر متوقفا عند طفل جائع ومتشرد فحسب، بل أطفال وشبّان وفتيات ونساء ورجال وشيوخ تتردى كل يوم تحت وطأة ووحشية وبربرية الإنسانية. شعوب بالكامل تُعاني وتتألم وتحتضر... إن العالم حقًا يتمخّض ويصرخ... فأخاف من التفكير فيم قد يلده?!!
بدأت تفوح من الإنسانية رائحة الموت وعبق العفن.. حقًا أننا من التراب وإلى التراب.. فما قيمة الإنسان؟! إنه غبار... الإنسان غبار... يظهر قليلا ثم يضمحل!! كراهية، ذم، قتل، تنكيل، إغتصاب، حرق، غضب، تعذيب، إرهاب وتهديد... وأبعاد كثيرة وثقيلة جدًا للقساوة واللؤم ... أؤمن بحق أن الإنسانية اليوم أخذت تعكس صورة واضحة جدًا لتقاسيم وجه الشيطان! ولكن، إليك الخبر يا أيها الإنسان...أنت اليوم غالي ومميز جدًا! نعم. ولكن ليكن معلومًا لديك بأنه ليس لبرك الذاتي ولا لقيمتك الشخصية العالية (فأنا وأنت مجرد غبار...لا تنس ذلك أبدًا!) فإن غلاوتك وغلاوتي مصدرها ومنبعها الأساسي والوحيد هو الله؛ لقد خلقني وخلقك على صورته، رفع شأني وشأنك وأجلسنا مع الشرفاء، نشلنا من طين حمأة وشرّفنا، وعزّزنا، وكرّمنا...!! كلما تدنّت فينا الإنسانية الترابية لنتذكر... فلنتذكر... وعود الله لنا وعمله الكفّاري لأجلنا... موته وقيامته لأنه أحبنا!!! عجبي!! أنظر للإنسان اليوم فيقشعر بدني والغثيان يثير أحشائي.. كيف لإله قدوس وطيب ومُحب وحنّان ورحيم أن يُحب فينا هذه الإنسانية البشعة والقذرة? إلى أين يا إنسان? إلى أين? ألم تكتف بعد من العالم النتن القابع أنت في أعماقه? ألم تستوعب بعد بأن شهواته وملذاته لم ولن تُشبعك يوما? بل على العكس، في كل مرة تتركك خاويا وضائعا لتنبث منك روائح كريهة ونتنة ومقرفة!! وماذا بعد يا إنسان? لقد كرهتَ، قتلتَ وحرقتَ واغتصبتَ وشرّدتَ..فهنيئا لك لأنك ربحتَ المعركة? ولكن أي معركة وما قيمتها? إن المعركة مع الغبار هي مجرد غبار! فأيُّ "جهاد" أنت تجاهد يا "بطل"؟! هو الله القدوس قد جاهد ومات لأجلك ولأجلي، لنتبرأ ونغتسل فنبيض كالثلج البرّاق ونُصبح به دون عيب... "ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه"(يوحنا 15: 13) هو الله القدوس الحنّان أصبح لأجلنا مذلّة وهوان، فأهين وسُخِّر كيما لا تحتاج أنت بعد للجهاد ولا للاستشهاد ولا لتقتل اخيك بحجة البر والجنة والحياة الابدية.. دون عناء منك لأنه هو قُتِل وعانى وتعذّب وكان شهيدًا لتحصل أنت على النصر المجاني بمعركته هو!!! معركته التي لم تكن ضد الإنسانية والبشرية، بل على العكس، فالله قد احتضننا في خضم المعركة تحت ظل جناحيه، محاميًا عنا ضد أجناد الشر وسلاطين الشر.. هو الله القدوس قد رفعنا وسمانا ليمنحنا هذه "الحياة الأبدية" المُتنازع عليها منذ قرون وأجيال...مجانا.. منحها لنا مجانًا... فلا تُجاهد بعد في جهاد العالم.. كفاك شرا واستيقظ... انظر جمال ونقاوة الخالق لتستوعب قباحتك ودناءتك!! يقول الكتاب المقدس: "أطلبوا الرب ما دام يوجد"!!! أطلبه قبل أن تُغلَق الأبواب فتُترك خارج المحلّة لموتك الأبدي، وهناك يكون البكاء وصرير الأسنان!!! "فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ." (متى 25: 13)