إن أحدى الكلمات التي تغيّبت عن قاموسنا الانجيلي كفلسطينيين نعيش في دولة اسرائيل، هي كلمة "وطن" فنحن نتجنب استخدام هذه الكلمة بجميع مشتقاتها مثل وطنيّ، وطنيّة، موطن، مواطنة؛ فهي لا تُقرأ في كتبنا ولا تُذكر في عظاتنا ولا تُنشد في ترانيمنا. وإن ظهرت فهي تدلُّ على وطننا السماوي أو تُستخدم بمعناها البسيط جداً بكوني فردا يعيش في هذه الدولة عليه واجبات معينة تجاه السلطة وله حقوق إن منحت له يكون راضياً. ليس ذلك فقط بل أخذت هذه الكلمة منحى معين في كنائسنا ليس بالضروري أن يكون المنحى الصحيح، واصبح استعمالها، بمشتقاتها المختلفة، له مدلولات سياسية لا "يليق" بالمؤمن استخدامه وإن تجنب الكلام عنه فذلك أفضل. لن استطيع بهذا المقال القصير معالجة هذا الموضوع الواسع بكل جوانبه، وكل ما أريده هو طرح بعض الأفكار والتحديات التي ممكن أن تساعدنا على التفكير في هذا الموضوع المهم بصورة أفضل.
إن أهم علاقة لنا كمسيحيين هي علاقتنا بالله، والعمل على تتميم دعوته لنا في هذه الحياة. فمحبتي لله وطاعتي لكلامه، بحسب رأيي، هي اساس المواطنة والوطنية، إذ أن هذه المحبة والعلاقة الكتابية الصحيحة بالخالق يجب أن تقود لمحبة القريب والجار وحتى العدو. وتترجم هذه المحبة ليس بإهتمامي الروحي بهم فقط، بل أيضاً في نواحي اخرى مثل الناحية الاجتماعية، وهذا ما نقوم به فعلاً عندما نساعد الفقراء والمحتاجين أو عندما نسعى لحل خلافات عائلية حتى لأناس ليسوا من الكنيسة ولا حتى مسيحييين. وبرأيي هنا تكمن المواطنة والوطنية والمسيحية الحقيقية، التي تظهر بإهتمامي بقريبي وجاري وابن وطني ومحبتي له كنفسي بصورة عملية. وأظن أن بعض القراء يتمنون لو أُنهي مقالي بهذه الفقرة التي وإن لم يشعروا براحة كاملة على بعض تعابيرها لكنهم يتفقون معي على مضمونها. وأظن أيضاً أن البعض سيتململون في أماكنهم عند قراءة ما يأتي ليس لأني أريد مضايقتهم، لا سمح الله، بل لأنهم تعودوا على عدم الكلام بهذه الأمور في الأطر الإنجيلية.
هناك بعد آخر للمواطنة يرتبط بعلاقتنا مع السلطة، ولا أريد هنا أن أدخل في موضوع الخضوع للسلطات، فهذا موضوع واسع ويستحق بحثه بصورة كافية ووافية في بحث آخر. لكني أريد التطرق الى المجالات القانونية التي تمنحها الدولة لمواطنيها، والتي استطيع استخدامها حتى أعبر عن إيماني وامارس قناعاتي المسيحية بصورة أفضل. فحرية العبادة مثلاً تمنحنا الفرصة لممارسة ايماننا وتعليمه واستخدامه للمصلحة العامة من خلال صلوات الكنيسة من أجل الذين هم في منصب ليعيش الجميع حياة مطمئنة وهادئة. وكإنجيليين نستخدم أيضاً قانون الحرية الشخصية الذي يعطينا الحق في التعبير عن إيماننا ومشاركته مع الآخرين، ونقوم بذلك من خلال حملات وبرامج تبشيرية أو اصدار منشورات إلخ... وجميعنا نستخدم هذه الحقوق بدون تردد، معتقدين أن هذا هو الدور الوحيد الذي يدعونا الكتاب المقدس للقيام به، متجاهلين دورنا وتأثيرنا المسيحي في المجتمع في أمور أخرى مثل العمل على تحقيق العدالة الإجتماعية، أو وضع برامج لتغيير ثقافة الكراهية ونشر ثقافة المحبة، الحث على قبول الآخر حتى وإن اختلفنا معه عقيدة ومبدأ والتعامل معه على أنه مخلوق على صورة الله ومثاله، بغض النظر عن دينه أو جنسه، وحقي في التصويت الذي من خلاله استطيع التأثير بصورة قانونية على المجتمع الذي أعيش فيه.
لا أظن أن أي من الامور السابقة ذكرها تتعارض مع مبادئنا الكتابية، فالكتاب المقدس يذكرنا بأهمية الصوت النبوي الذي يرتفع ضد الظلم وسلب حقوق الناس واضطهادهم، كما ويذكرنا يسوع في الموعظة على الجبل بدورنا كصانعي سلام واصحاب قلوب تطلب الرحمة للآخرين، وتناشدنا كلمة الله أن نقاوم الشر بالخير. فلماذا نحاول روحنة هذه الامور والتهرب من طاعتها؟ لماذا نقر بأهميتها لكننا نتردد في أخذ أي خطوة لتحقيقها؟ إن كنا نؤمن بسيادة الله، فالله وضعنا في دولة يمكننا أن نؤثر فيها بصورة ديموقراطية من خلال الاشتراك في التصويت والفرصة أن نكون جزءا من صنع القرار الافضل، فلماذا لا نستخدم هذا الحق؟ إن العمل على أخذ هذا الدور، هو شيء قانوني لا يُعاب من يطالب به بشيء، لذلك يجب ان نفسح المجال لهذه الامور لتصبح جزءا من لاهوتنا العملي، ونترجم هذا اللاهوت بمواقف بسيطة وواضحة نُظهر من خلالها وطنيتنا أعني مسيحيتنا، التي تسعى وراء الخير وكل الخير للجميع. ولنتذكر أن غيابها من لاهوتنا، يعني انفصالنا عن المجتمع الذي نخدمه، وبالتالي غياب تأثيرنا ودورنا كسفراء ووكلاء الله على هذه البقعة من الارض التي وضعنا الله فيها.