القراءات الرئيسية: أيوب 22 : 22 – 30، حزقيال 47 : 1 – 5.
أليفاز التيماني، واحد من اصدقاء ايوب الثلاثة، يقول لأيوب في بداية هذه الفقرة: "تعرف به واسلم، بذلك يأتيك خير"، أي انه يقول لأيوب: هناك عمل يجب ان نعمله فنسلم وعندها سيأتينا خير. بكلمات أخرى، أليفاز يعيّر ايوب ويقول له بانه لو أنك عرفت الرب ووصلت إلى الأعماق بالطريقة التي سأقولها لك فسوف تسلم لا محالة وسيأتيك الخير، وكأن أليفاز يقول لأيوب: "يظهر يا أيوب انك لم تصل إلى هذه الأعماق، ولذلك فأتى كل هذا الشر على حياتك..."، وفي الأسطر القليلة المقبلة سنكتشف أن أليفاز أخطأ في تعييره لأيوب وحكمه عليه.
أليفاز يقدم لأيوب عظة عن الأعماق الروحية التي يجب أن نعبرها في حياتنا مع الله، يتكلم عن ثلاثة مراحل أساسية للدخول إلى العمق الروحي، تصاعده ونتائجه، وسنساعد أليفاز في عظته مقارنين كلماته مع الفقرة المذكورة من سفر حزقيال.
العمق الأول: المياه إلى الكعبين. أيوب 22 : 22 – 25، حز 47 : 3.
مرحلة التوبه - القبول والبناء (الألفيه الأولى): تبدأ هذه المرحلة بقبولنا الرب في حياتنا، فيها ندخل المياه – الحياة مع الله في الألفية الأولى حيث المياه إلى الكعبين، نختبر بهجة الخلاص والنمو الروحي، يوجد بناء، تعب مشقات، بناء اساساتنا الروحية، ونختبر أنه بضيقات كثيره ينبغي ان ندخل ملكوت السموات (أع 14 : 22)، وكما قال الرب: "في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا انا قد غلبت العالم" (يو 16 : 33).
إن قبول الخلاص يتم في لحظة قبولنا المسيح في حياتنا، ولكن ليست هذه نقطة النهاية، بل بداية لحياة مليئة بالتحديات نخوضها في العراك ضد الخطيه ليس بدون نعمة الرب ومعونته.
مرحلة البناء تحتاج إلى مجهود ووقت، فالسير في المياه ليس بالأمر الهيّن أو المريح، فيسوع سبق وأخبرنا أن الباب لطريق الرب ضيق والطريق المؤدي إلى الحياة كرب، وقليلون هم الذين يجدونه (متى 7 : 14).
كذلك قد نلاقي الكثير من المقاومات والمقاومين، فنحن في مرحله فيها نبعد الظلم عن خيمتنا (أي 22 : 23) اي نرفض أن نظلم ونغش ونختار أن نعيش حياة الاستقامة والسلوك في النور، فمكتوب ان الظالمين لا يرثون ملكوت السموات (1 كو 6 : 9)، فلا يمكن ان نظلم أخانا ولا ننصفه وبنفس الوقت نستمر في الحياة مع الله، فدخولنا المياه يعني أننا نحن، من الآن فصاعدا، أمام ثلاثة أعداء قويه: الشيطان، الجسد والعالم، فنحن معتادون السير على اليابسة، نفعل ما يحسن في أعيننا، وليس على المياه.
هذه المرحلة فيها تضحيه حيث نلقي بالتبر على التراب (أي 22 : 24)، أي نضحي بأغلى ما عندنا لأجل الرب، ان كان بحياتنا، اوقاتنا، ممتلكاتنا، اموالنا وكل امر غالي على قلوبنا غير الرب يتوقع الرب منا ان نطرحه على التراب وبين حصى الاودية ... ولكن الرب لا يبقى مديونا لاحد، فهو يكرمنا ويعوضنا، كما قال لتلاميذه: ليس احد ترك أبا أو أما أو إخوة أو أخوات أو حقولا إلا ويأخذ مائة ضعف مع اضطهادات وفي الدهر الاتي الحياة الابدية (مر 10 : 30). في هذه المرحلة نلاحظ ان أغلبية الجسد ما زال خارج المياه، ولكن مع دخولنا أكثر الى الأعماق يبدأ الجسد أو أعمال الجسد بالاختفاء شيئا فشيئا.
نشبّه هذه المرحلة ببناء أساسات البيت والهيكل والتجهيز للسكن فيه.
العمق الثاني: المياه إلى الركبتين. ايوب 22 : 26، حز 47 : 4.
مرحلة التلذذ بالرب (الألفية الثانية): يقول في المزامير: "تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك" (مز 37 : 4). نتمتع في البيت الذي بناه الرب في حياتنا (ان لم يبن الرب البيت فباطل يتعب البناؤون – مز 127 : 1)، نتمتع ببركات القدير، نسكن البيت الروحي، مرحلة يبدأ فيها استقرار ونضوج روحي، نرفع الى الله وجوهنا أي نقترب إلى الله ونثبت انظارنا نحوه، نترك كلام البداءة ونتقدم لنأكل الطعام للبالغين، نميز الأمور المتخالفة (عب 5 : 14، رو 2 : 18، في 1 : 10). عمق فيه نتمتع ببركات السماء، نقول فيه: حلقه حلاوة وكله مشتهيات، يعطينا كل شيء بغنى للتمتع من صحه وعائله وأولاد وعمل ومواهب روحيه واستخدامات الهيه وثمر (إقرأ|ي كذلك من فضلك أش 58 : 9، 10، 14).
ولكن مع كل هذا فما زالت المياه عند الركبتين، وما زال أغلب اتكالنا على الجسد وقدراتنا ومواهبنا وطاقاتنا، ولكن هناك أعمق من ذلك ...
العمق الثالث: المياه إلى الحقوين. ايوب 22 : 27 – 30، حز 47 : 4.
مرحلة الثبات (الألفية الثالثة): هنا نصل إلى درجه فيها نثبت في الرب وفي كلامه، عندها نصلي فيكون لنا، نجزم أمرا فيصير، كما قال يسوع: ان ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم (يو 15 : 7)، مرحلة فيها نعرف كيف نصلّي بحسب مشيئة الرب وقلبه فيستجيب لنا، و"نذورك توفيها" اي نعيش حياة الصدق مع الله والناس، طائعين وعاملين بكلامه بأمانة.
هذا العمق رائع، فيه الجسد مغطى لنصفه أو أكثر، مرحلة الانتصارات الروحية وامتلاك أراضي روحيه كشعب إسرائيل عندما دخل ارض الموعد. هنا نصل مرحلة إيمان بمستوى عال، نرى وندعو الأمور غير الموجودة كأنها موجوده (أيوب 22: إذا وضعوا تقول رفع ... ينجي بطهارة يديك، كذلك رو 4 : 17).
يقول في المزامير: من يصعد إلى جبل الرب ومن يقوم في موضع قدسه، الطاهر اليدين والنقي القلب ... (مز 24 : 3 - 5)، مرحلة صعود إلى جبل الرب بعد ان نتطهر ونتقدس، حيث يتجلى لنا الرب بذاته كما ظهر على جبل التجلي أمام أكثر التلاميذ قربا له وعندها كذلك سنسمع صوت الله ونفهم مشيئته لحياتنا.
هنا تنتهي عظة أليفاز التيماني، ولكن ما زال هناك أعمق من ذلك.
العمق الرابع: مياه سباحه نهر لا يعبر - حزقيال 47 : 5:
هذا لم يصله اليفاز التيماني ولكن أيوب أدركه ووصله واختبره ونجح فيه، عمق كشفه الله لحزقيال في الآية المذكورة.
هذه المرحلة هي الأعمق، فيها تسليم كامل لله ولعمله في حياتنا، هنا كل الجسد مغمور بالمياه وأرجلنا تسبح في المياه بتسليم كامل للمياه دون أن تدوس ارجلنا اليابسه، أي انه لا اتكال على امكانياتنا أو مواهبنا أو طاقاتنا أو معرفتنا، مهما كثرت، إنما على الله.
هذا العمق معناه انه حتى لو وصلنا إلى أعمق درجات الإيمان وارتقينا كل هذي المستويات الروحية التي تكلم عنها أليفاز، وبالرغم من كل ذلك لم نحصل على البركة الارضية أو أنها أخذت من بين أيدينا، مع هذا نبقى ثابتين وواثقين بالرب ونقول مع ايوب: "عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك، الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركا" (أي 1 : 21).
هناك عدة من رجالات الله الذين تعرفوا وأدركوا ووصلوا وعاشوا هذه الأعماق، كأيوب وحزقيال وأساف وداود وبولس وبطرس ويوحنا الحبيب وغيرهم، يدعوهم الكتاب أبطال الإيمان الذين تحدث عنهم بعبرانيين 11، أولئك الذين اضطهدوا لأجل الرب ولم يتنازلوا عن إيمانهم بالسيد.
هذا العمق معناه أمران رئيسيان: الأول أن أكون منقادا قيادة كاملة من الله بإرشاد الروح القدس – وهذا هو السباحة في نهر لا يعبر، أي في حالة تسليم كامل ومطلق للرب، والآخر هو أن لسان حالي دائماً: "يا رب مهما حصل فانا لك، مهما كانت الظروف والأحوال، أخذنا أو لم نأخذ، كثير ام قليل، لدي ممتلكات، عائلة، أولاد، أهل أو لا أملك كل ذلك، صحه ام مرض، عمل جيد أو غير جيد، عبد أم حر... فأنا لك ولغيرك لن أكون". لسان حالي يقول: "يا رب انا اتبعك مهما كان ومهما حصل، بدون شروط أو حدود أو قيود، عالم بمن آمنت وموقن انه قادر ان يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم"، كيف لا وهذا العمق غير محدود بألفية، هو العمق الذي لا يعرف الحدود.
عكس ذلك، يصفهم الكتاب ب"الذين انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان" (1 تي 1 : 18 – 20)، حيث يؤكد على الإيمان الصالح والضمير الصالح. الإيمان الصالح هو الذي يفسر كل ما يحدث معي بطريقه صالحه، حتى الأمور التي تبدو سلبية، والضمير الصالح هو نائب الله في الإنسان الذي يعطيني الصبر كي اقبل كل شيء من الله، كما قال ايوب: "أالخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل ؟" (2 : 10)، هو العمق الذي وصله ايوب أيضاً عندما قال: "الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركا".
نلاحظ ان الكتاب يقول أن أيوب لم يخطئ ولم ينسب لله جهالة ولم يخطئ بشفتيه (1 : 22، 2 : 10)، والله برّأ ايوب ووصفه بالبار عندما خاطب أصحاب أيوب قائلا: "لم تقولوا فيّ الصدق كعبدي ايوب" ووبخ الله أصدقاء أيوب على تعييرهم لأيوب وأنهم أخطأوا بالحكم عليه، لماذا ؟ لأن أصدقاء أيوب، بما فيهم أليفاز، لم يدركوا العمق الرابع (1 : 8، 2 : 3، 42 : 7 - 8).
نلاحظ ان الدخول إلى الأعماق أمر تدريجي ويتعلق في تعاوننا مع الرب وصنع القرار ان ندخل إلى الأعماق ونترك حياة الشاطئ. نلاحظ كذلك أن الدخول للأعماق يصعب أكثر من مرحله لأخرى، بالضبط كما يصعب في عملية السباحة من مرحلة الكعبين للركبتين ثم الحقوين ... إلى ان ندخل إلى الأعماق التي فيها نُحمل على الأذرع الابدية، حيث فيها نسلم تسليما كاملا لرب الأرباب وملك الملوك ("سلمنا فصرنا نحمل" – أع 27 : 15، تث 33 : 27).
إن الحياة المسيحية ليست مبنيه على المصالح، وليست بالضبط كما وصفها أليفاز: "تعرف به واسلم، بذلك يأتيك خير"، مع ان هذا الأمر حقيقه نختبرها ووعد الله بها، ولكن الحياة المسيحية لا تتوقف عند هذا الحد، بل هي أعظم من ذلك بكثير، حياة فيها عمق رابع غير محدود بألفيه كالأعماق الثلاثة الأولى، بل هو لا يُعبر، واسع وغير محدود، هو الله بذاته، عندما ندخله يعني أننا دخلنا حيز الله نفسه.
ليت الرب يعبرنا هذي الأعماق، حتى نصل إلى ما لا حد له، عندها سوف يحملنا القدير على أذرعه الأبدية ويقودنا قيادة كاملة بروحه القدوس الساكن فينا، وعندها كذلك سوف نحتمل ونقبل أي شيء يمكن ان يواجهنا ولا يقف أحد في طريقنا، آمين.