قبل الخوض في محاكمة يسوع من قبل بيلاطس البنطي، صاحب المقولة المذكورة في العنوان، نلقي لمحة على شخصية بيلاطس، فمعنى أسمه "ضغط" (PILATUS) "البحر" (PONTIUS)، وهذا قد يشير ألى شخصيته، كالبحر الهائج في الاضطراب والعواصف، وهكذا كانت فترة حكمه التي اتسمت بالكثير من الثورات اليهودية وتلطخت يداه بالكثير من الدماء (أنظر من فضلك لو 13 : 1). ولد في العام العاشر قبل الميلاد، روماني الجنسية، تسلم حكم مقاطعة اليهودية عام 26 م على عهد الامبراطور الروماني طيباريوس قيصر لغاية عام 36 م، ومحاكمة الرب كانت بعد 7 سنين من حكمه (33 م). كان بيلاطس شخصية ذات مكانة، حيث كان في الحرس الملكي الخاص بالقيصر.
"ما كتبت قد كتبت" هي مقولة لفظها بيلاطس البنطي بعد أن توجه أليه رؤساء كهنة اليهود طالبين أن يغيّر النص لليافطة التي علّقت بأعلى خشبة الصليب، فهم طبعا لا يعتبرونه كذلك ولا يريدون أن يرى الناس "ملك اليهود" بمشهد الضعف والأذلال بل واللعنة (بحسب الآية: "ملعون كل من علّق على خشبة" – غل 3 : 13)، فطلبوا تغيير العنوان بأن يكتب أن يسوع يقول أنا ملك اليهود (أو "أنا أقول أني ملك اليهود")، فأجابهم بيلاطس: "ما كتبت قد كتبت" (يو 19 : 19 – 22) وبذلك رفض لمطلبهم. طلب آخر أبى بيلاطس أن يحققه لرؤساء الكهنة والفريسيين هو عندما طلبوا منه ضبط القبر وأن يضع حراسا "لئلا يأتي تلاميذه ليلا ويسرقوه ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات"، أجابهم بيلاطس: "عندكم حراس، أذهبوا واضبطوه كما تعلمون" (مت 27 : 64 – 65).
هذا الرفض لمطلبي اليهود يعكس في الحالتين نفسية بيلاطس التي تدنّت للحضيض بعد أصداره أمر تسليم الرب، هادرا بذلك دما بريئا لبار لم يجد فيه علة للموت، وكمحاولة لأسكات ضميره أخذ ماء وغسل يديه أمام الجميع وأعلن: "أني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم" (مت 27 : 24) وأسلم يسوع لمشيئتهم. هل فعلا أعلان بيلاطس لبراءة المسيح يبرئه من الحكم عليه بالصلب ؟! أن الوضع الأمثل للأجابة على هذا السؤال هو شهادة يسوع نفسه بعدما سأله بيلاطس: "أما تكلمني، ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك، أجاب يسوع لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق، لذلك الذي أسلمني أليك له خطية أعظم" (يو 19 : 10 – 11).
من هنا نفهم أن يسوع يحكم على بيلاطس بأن خطيته عظيمة، والأعظم منها خطية يهوذا مسلّمه، فارتعب بيلاطس من هذا الحكم والسلطان الصادر من كلام الرب عليه، والدليل لارتعاب بيلاطس هو ما حدث بعد ذلك، فيقول الوحي: "من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يطلقه ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين أن أطلقت هذا فلست محبا لقيصر، كل من يجعل نفسه ملكا يقاوم قيصر" (يو 19 : 12).
هذه الآية الأخيرة تصوّر الصراع الذي انتاب بيلاطس ما بين براءة الرب وتهديدات اليهود بالفتنة والشغب والتلميح برفع دعوى لقيصر بتهمة "جعل يسوع نفسه ملكا"، فأذا علم ذلك عند القيصر لكان حكم بيلاطس مهددا بالخطر (أنظر من فضلك مت 27 : 24 ومحاولة تجنّب بيلاطس الشغب من اليهود). للأسف، غسل بيلاطس يديه أمام الجمع لا يبرئه من الحكم على يسوع بالصلب، فهو الذي استجوب الرب ولم يجد فيه علة واحدة للموت (لو 23 : 4، 14) ولا هيرودس أيضا (لو 23 : 15)، وكذلك اعتراف بيلاطس وأقراره "وها لا شيء يستحق الموت صنع منه" (لو 23 : 15)، فهو أراد أن يطلق يسوع (لو 23 : 20) وسأل اليهود ثلاث مرات "وأي شر عمل ؟!" (لو 23 : 22) فلم يجد أجابة واحدة أو علّة مما يشتكي اليهود عليه: "وها أنا قد فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الأنسان علة مما تشتكون به عليه" (لو 23 : 14).
لا ننكر محاولات بيلاطس أطلاق الرب، منها عن طريق حبس باراباس، محاولات باءت بالفشل الذريع أمام صرخات اليهود النجسة والحاسدة والحاقدة "أصلبه أصلبه"، كيف لا وبيلاطس يعلم كل العلم أن اليهود قد أسلموا الرب حسدا (مت 27 : 15 – 18)، وفوق كل ذلك، وفي قمة الصراع المذكور، ترسل أليه زوجته محذرة: "أياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله" (مت 27 : 19). على الرغم من كل الأنذارات والتحذيرات، لا بل وأعلان بيلاطس براءة الرب، فقد اختار بيلاطس تسليم يسوع للصلب حرصا على حكمه وكرسيه ولأسكات وأرضاء اليهود. لقد ضرب بيلاطس فرص التوبة عرض الحائط، فخطيته عظيمة.
يقول التاريخ أنه في نهاية فترة حكمه تسبّب بيلاطس في حدوث فتن عديدة في اليهودية لعدة أسباب، منها أقامة تماثيل للقيصر في هيكل أورشليم خلافا للناموس وابتزاز أموال القرابين لأقامة قناة مياه تغذّي أورشليم، مما سبّب هياجا وشغبا وقتل الكثير من اليهود، ولما تولّى كاليجولا الأمبراطورية الرومانية أمر بأضافة حكم اليهودية ألى صديقه هيرودس أغريباس الثاني (حاكم الجليل اليهودي) فعزل بيلاطس البنطي من حكمه ونفاه ألى فينا حوالي عام 44 م، ونظرا لحزنه ومهانته ونفيه بعد خدماته للأمبراطورية انتحر بيلاطس البنطي في منفاه بفينا.
كم يذكّرنا ذلك بنهاية يهوذا الأسخريوطي.