منذ حوالي 30 سنة، بينما كنت أتطوع في أحد مراكز المؤتمرات المسيحية في البلاد، أذكر أن أحد القسس شدد اثناء تقديمه تقريراً عن العمل التبشيري وامتداد وتوسع خدمة الكنائس، على أهمية اعادة النظر في استثمار الكنيسة للوقت، الاموال والموارد البشرية في منطقة معينة على الأقل مراجعة طرق وأساليب الخدمة التي يقومون بها، وذلك بسبب عدم وجود ثمر رغم العمل المتواصل لسنوات طويلة. لم يرق لي ما سمعته، وأذكر جيداً أني استأت جداً من كلامه، إذ لمست به نوعاً من الاستسلام وعدم الايمان، فأي قائد مسيحي يقول مثل هذا الكلام، وأي مثال يترك لنا نحن الشباب في المثابرة والعمل الدؤوب لنشر رسالة الانجيل؟ لا أعلم لماذا تذكرت هذه القصة اليوم، ربما بسبب مقابلتي صدفة لهذا الخادم مؤخراً، أو بسبب تفكيري في المدة الأخيرة بنمونا كأنجيليين في هذه البلاد، ولربما بسبب تساؤلاتي عن أساليب الخدمة التي نقوم بها ومدى نجاعتها وتأثيرها. لا أعلم السبب لكن المهم أني تذكرت، والأهم أنه بعد هذه المدة الطويلة أنا اليوم أوافق ما قاله هذا الخادم، ليس بسبب تغيير في قناعاتي الانجيلية، بل بسبب إيماني الراسخ أن رسالتنا الانجيلية بجانبيها الروحي والاجتماعي هي ما يحتاجه مجتمعنا وشعبنا اليوم، وعلينا أن نعمل كل الجهد لايصالها.
إننا اصحاب رسالة، أعظم وأهم رسالة عرفها التاريخ، إنها رسالة محبة الله للبشر، هذه المحبة التي ظهرت في تجسد الله وموته على الصليب وقيامته من الاموات لكي ينال كل من يؤمن به ليس حياة أبدية فقط، بل أيضاً حياة أفضل حتى في عالمنا هذا. لكني بدأت أظن أنه اختلطت علينا الأمور حتى أننا لم نعد نميّز بين الرسالة وبين الوسيلة التي نقدم بها الرسالة، فنحن ولمدة طويلة تمسكنا بالوسيلة والاسلوب أكثر من تمسكنا برسالتنا ومضمونها رغم عدم وجود ثمر، وتابعنا خدمتنا بنفس الطريقة واستطعنا بصورة أو بأخرى لوم العالم في الخارج وليس أنفسنا. هذا يذكرني بحكمة هندية قديمة تقول: "عندم تكتشف أن الحصان الذي تمتطيه ميتاً، افضل ما يمكنك عمله هو الترجل عنه". لكننا تجاهلنا هذه الحكمة، وحاولنا ركوب حصاننا الميت مراراً وتكراراً، وأوجدنا طرقاً لجعل أمتطائه يبدو أجمل، فتارة نضع عليه سرجاً جديداً، وتارةً أخرى نشتري سوطاً جديداً، غيرنا الفارس، وقمنا بدورات تدريب لتحسين طريقة ركوبنا لهذا الحصان، وعندما واجهنا أحدهم بحقيقة موت الحصان، كان ردنا أن الله يدعونا لركوب هذا الحصان بالذات. لقد صرنا أشبه بذلك الشخص الذي يستخدم جهاز المشي، فهو يبذل كل الجهد والوقت، يتعب ويتصبب عرقاً ويركض أميالاً كثيرة لكن في النهاية يبقى في مكانه. كنا على استعداد لفعل أي شيء ما عدا تغيير الحصان.
أقول هذا ليس للانتقاد، بل للتحفيز والتشجيع على التفكير والصلاة لكي نصل للناس من حولنا برسالة السلام والخلاص، ورسالة الامل والرجاء. إن العمل أمام الكنيسة في البلاد ما زال كبيراً جداً، والفرص ما زالت متاحة، والابواب مفتوحة على مصاريعها. فالشباب مثلاً في تخبطه وارتباكه بحاجة أن يسمع كلمة الله التي تقدم له الارشاد والهدف في الحياة، هو لن يبحث عنا، ومسؤوليتنا هي البحث عنه والوصول إليه. والمجتمع المتألم من ظروف الحياة والاوضاع السياسية والاوضاع الاقتصادية ينتظر رجاء وأمل، وبلادنا التي تغرق بالكراهية والعنف والعنصرية تصرخ هل مِن مُعين، فما هو جوابنا لهذه التحديات السياسية والاقتصادية والعنصرية؟ إن المسلمين واليهود، متعصبين أو متدينين أو حتى علمانيين، بحاجة هم أيضاً لرسالة الانجيل، هم بحاجة لرسالة محبة الله الموجودة في شخص المسيح، فماذا فعلنا لنتواصل معهم؟
وأقف هنا لأتساءل، ماذا جرى لنا؟ لماذا نرضى بالقليل القليل؟ ولماذا لم نعد نكترث بوجود الثمر أو بعدمه؟
لا يمكننا الاستمرار بإستخدام نفس الطرق لمشاركة الانجيل مع الناس والمجتمع من حولنا لسنين طويلة ونحن نعلم علم اليقين أن الثمر المرجو ضئيل. ولا يصح أن نختبئ في كنائسنا ونتوقع أن يأتي الناس إلينا، بل علينا أن نكون خلّاقين ومبدعين في إيجاد طرق تواصل وبناء جسور مع المجتمع. إن كنا مقتنعين أن المشكلة ليست في الرسالة التي نحملها، فلربما المشكلة في الوسيلة التي نقدم بها الرسالة. إن كنا مقتنعين كل الاقتناع أن رسالة الانجيل هي الحل الذي يقدمه الله للبشر ومشاكلهم، فلماذا لا نقف وقفة شجاعة نراجع بها أنفسنا وطرق وأساليب خدمتنا ومدى تأثيرها. لأننا إن لم نفعل ذلك لننتبه لئلا نصبح عاملي صيانة نصب جل جهدنا في المحافظة على "حصاننا الميت" ويصبح عملنا الرئيسي تعليم فن امتطاء الخيول الميتة!