~~وصلت إلى مسامعي مؤخرا قصة هزت أبناء بيت لحم وضواحيها. تهجم أحد الملتحين المتعصبين بدون أي سبب على مسيحي معروف وتاجر يبيع المنتوجات اليدوية التلحمية المشهورة للسياح. أسمعه كلاما بذيئا عنصريا موغلا في همجيته. لم يرد المسيحي ولو بكلمة، لكنه أخبر العمال الذين يشتغلون في محلاته، وكلهم من المسلمين. توجه العمال إلى الشخص الذي أساء لمديرهم وصاحب المحل الذي يوفر الرزق لعائلاتهم وأشبعوه ضربا. بعد يوم أو يومين قام الإسلمجي المتعصب وجمع ثلة من جماعته وتوجه إلى المحل التجاري الذي يملكه المسيحي فكسره وحطم محتوياته، التي تقدر بأكثر من نصف مليون دولار أمريكي، ثم توجهوا إلى الكنيسة القريبة وألقوا عليها الحجارة وكتبوا عبارات عنصرية. وفي اتصال مع صديقة من المدينة نفسها أكدت لي أن عائلة التاجر المسيحي الذين كانوا يصرون على عدم مغادرة الوطن بدأت تفكر جديا في الرحيل بعد أن خسروا المحل ومحتوياته ومصدر رزقهم ورزق عدد من العمال. شيء مذهل أن يحدث هذا في فلسطين، بلد التسامح والحريات الدينية والتضامن الوطني ضد العدو القومي الذي اغتصب البلاد وأهان العباد وشرد الملايين واستولى على الأرض ودمر المساجد والكنائس واقتلع المسلمين والمسيحيين من وطنهم، وحولهم إلى لاجئين في المنافي في كل بقاع الأرض. وبغض النظرعن الأهداف والنوايا التي تدفع بعض الإسلامويين للتعرض للمسيحيين الفلسطينيين فهم إنما يخدمون إسرائيل ومخططاتها في تفريغ البلاد من سكانها، خاصة المكون المسيحي الأصيل كي يبرروا يهودية الدولة وليقولوا هذه دولة يهودية مقابل وجود دولة مسلمة. ودعني أصرخ باسمي واسم ملايين العرب الفلسطينيين، نحن لا نريد دولة إسلامية في فلسطين ولا نستطيع أن نعيش بدون إخوتنا وأهلنا وأحبتنا من المسيحيين. نحن منهم وهم منا. نحن جسم واحد وقلب واحد ودم واحد ولا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تقسم الشعب الفلسطيني بين مسيحي ومسلم، فالعروبة توحدنا والعدو القومي يوحدنا والهم الواحد يوحدنا والوجع الواحد يوحدنا والمستقبل الواحد يوحدنا. وكل من يعمل على تفريغ فلسطين من مكونها المسيحي الأصيل يعمل بعلم أو بدون علم لصالح المشروع الصهيوني، الذي يسعى لإقامة دولة يهودية خالية من «الأغراب» العرب مسلمين ومسيحيين.
تراجع الوجود المسيحي في فلسطين
كان عدد سكان المسيحيين في فلسطين قبل النكبة يقترب من 10٪ من مجموع السكان. فمدينة بيت لحم مثلا كان عدد المسيحيين فيها عام 1947 نحو 78٪ انخفض الآن إلى نحو 12٪ فقط. ومدينة القدس كان يقطنها نحو 19٪ من المسيحيين انخفض الآن لأقل من 1٪. ولم يبق في فلسطين التي اغتصبت عام 1948 إلا 34000 ألف مسيحي وصل عددهم الآن إلى 125000، وهو عدد قليل مقارنة مع زيادة المسلمين في الفترة نفسها، بسبب الهجرة الخارجية وقلة الإنجاب. ويصل عدد المسيحيين في الضفة الغربية إلى أكثر قليلا من 200000 بينما انخفض عدد المسيحيين في قطاع غزة إلى أكثر من النصف، بعد أن سيطرت حركة حماس على القطاع عام 2007، ولا يتعدى عدد المسيحيين فيها 1400 شخص. أما القدس فلا يتجاوز عدد المسيحيين 8000 شخص بسبب الهجرة وسحب الهويات من القاطنين خارج القدس، وعدم تجديد الهوية المقدسية، إذا تجاوز حاملها سنة خارج البلاد. والسبب الآخر لهجرة المقدسيين هو ارتفاع نسبة البطالة وشلل الحياة الاقتصادية في المدينة، بسبب الإجراءات الإسرائيلية المتلاحقة الهادفة إلى اقتلاع سكان القدس الأصليين، خاصة الضرائب الباهظة على الأملاك والمحلات التجارية، مما يجبر السكان على الهجرة أو الانتقال إلى رام الله ومدن الضفة الغربية.
كما يتعرض مسيحيو المدينة إلى الهجمات المتواصلة من المتطرفين اليهود. فقد تضاعف عدد الهجمات على المواقع المسيحية في السنوات الخمس الأخيرة. ففي عام 2012 وقعت عشرة اعتداءات على المواقع المسيحية، بينما وقع 22 اعتداء عام 2013. ويقوم المتطرفون اليهود بنشر يافطات تهاجم المسيحيين، حيث رفعت يافطات تقول «الموت للعرب – الموت للمسيحيين» أثناء زيارة البابا فرنسيس لفلسطين المحتلة عام 2014 أمام مركز الفاتيكان في القدس «نوتر دام» ومقابل كنيسة الروم الأرثوزوكس. كما تمت مهاجمة أماكن المسيحيين في الجليل، حيث تم تخريب أماكن للعبادة وقذف متطرفون يهود مجموعة من الحجاج المسيحيين في الناصرة بالحجارة.
عملية الهجرة الطوعية والتهجير القسري وجهان متلاصقان لاستنزاف الوجود المسيحي في أرض المسيح ومهد الديانة المسيحية. يبلغ عدد المسيحيين الفلسطينيين في الوطن والشتات أكثر من مليون إنسان. يتوزعون على الدول المحيطة بفلسطين ودول أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. ففي بلد مثل تشيلي يوجد نحو 350000 من أصول فلسطينية معظمهم من مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. وبينما يزيد عدد المسيحيين الفلسطينيين في المهاجر يضمحل وجودهم إلى درجة النشاف في موئلهم الأصلي وتلك لعمري مأساة كبرى.
قيادة النضال الفلسطيني
في ديسمبر عام 2009 وقعت قيادات الكنائس المسيحية وثيـقة تاريخية مهمة تحت عنوان «وثيقة كيروس فلسطين- لحظة الحقيقة». وتنص الوثيقة الجريئة على أن «احتلال فلسطين يعتبر خطيئة ضد الله وضد الإنسانية». وهي الدعوة نفسها التي أطلقتها كنائس جنوب أفريقيا، عندما أعلنت «أن نظام الأبرثايد خطيئة ضد الله والإنسان». وتدعو الوثيقة جميع الكنائس والمسيحيين في العالم إلى تبني الوثيقة والدعوة إلى مقاطعة إسرائيل، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وسحب الاستثمارات منها، فعزلة إسرائيل ستؤدي إلى زيادة الضغط عليها لتتراجع وتلغي كافة القوانين العنصرية التي تميز ضد الفلسطينيين وغير اليهود. ومن بين الموقعين على الوثيقة الكاردينال ميشيل صباح، والأسقف عطا الله حنا، والأب جمال خضر، والراهب متري راهب والسيد رفعت قسيس، المتحدث باسم المجموعة.
وهذه الوثيقة استمرار للدور الريادي والقيادي الذي لعبه مسيحيو فلسطين في مقارعة الاغتصاب الصهيوني والاحتلال. فكان منهم قادة الفصائل والأحزاب والكتاب والصحافيون والشعراء ورجال الدين. ولو أردنا أن نعدد جزءا منهم لاحتجنا إلى صفحات. ويكفي أن نتذكر حكيم الثورة جورج حبش، القائد النقي المتواضع الذي لم تخطئ بوصلته الاتجاه نحو فلسطين التاريخية. ومع حبش كان رفيق دربه وديع حداد القائد الصلب الذي أصر على أن العالم كله ساحة صراع مع الصهاينة. والشهيد كمال ناصر الشاعر المناضل الذي اغتالته وحدة كوماندو إسرائيلية في شقته في بيروت عام 1972، ونذكر منهم إميل الغوري سكرتير الهيئة العربية العليا وكريم خلف، رئيس بلدية رام الله الذي تعرض لمحاولة اغتيال من قبل الصهاينة، ثم قرروا طرده من منصب رئيس البلدية عام 1982. ومنهم ناجي علوش وحنا مقبل وعزمي بشارة وأليكس عودة، الذي اغتاله الصهاينة في لوس أنجليس وكثيرون غيرهم. لقد قادت بلدة بيت ساحور ثورة الضرائب في الانتفاضة الأولى وحولت الكنيسة إلى مقر للتوبة ومحاكمة المنحرفين وطنيا فضربت أروع الأمثلة في النضال الجماعي ضد الاحتلال. والمسيحيون قادة الفكر والمعرفة والعلم ويقف إدوارد سعيد شامخا كالطود الأشم يشكل جوهرة في جبين العرب عامة والفلسطينيين خاصة. ومن لا يتذكر جورج أنطونيوس صاحب كتاب «النهضة العربية» وأحد مؤسسي الفكر القومي المعاصر وخليل بيدس والمربي خليل السكاكيني وأنطون شماس وإميل حبيبي وتوفيق طوبي ومي زيادة وتوفيق كنعان وسميح فرسون وأنيس ويوسف الصايغ وصبري جريس وجوزف مسعد والممثلة كلارا خوري والمخرج إليا سليمان والرسام كمال بلاطة وغيرهم المئات.
أما الزعماء الدينيون الذين ضربوا أروع الأمثلة في النضال فيقف المطران عطا الله حنا مثالا ساطعا في التصدي للاحتلال والتأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني، والمناضل الأب إبراهيم عياد مفوض منظمة التحرير لدول أمريكا اللاتينية والكاريبي. ومنهم البطريرك ميشيل صباح وفؤاد الطويل ونعيم عتيق ومتري الراهب وإلياس شكور وسليم منير وغيرهم الكثير.
المسيحية ولدت هنا وستظل هنا
هل يستقيم لذي عقل أن يتم تفريغ فلسطين منبع المسيحية من مسيحييها؟ هل نتخيل بيت لحم، مدينة مولد المسيح والناصرة المدينة التي شب فيها والقدس المدينة التي عذب فيها وصلب (أو شبه لهم) وصعد منها إلى الأعالي بدون مسيحيين؟ هل نتخيل مكة والمدينة بدون مسلمين؟ أو الفاتيكان بدوم كاثوليك؟ يكاد الوضع في فلسطين ينذر بذلك. لقد طفت في رحلتي الصيفية الماضية على الكنائس الثلاث، المهد في بيت لحم، والبشارة في الناصرة والقيامة في القدس، وذهلت لقلة الزوار والمصلين والحجاج. هذه أهم كنائس الأرض وأقدس مقدسات المسيحيين تخنق ببطء من قبل الاحتلال، كي يجبر السكان المحليين على مغادرة البلاد. سياسة لئيمة تكاد تؤتي ثمارها، خاصة في بيت لحم والقدس. إسرائيل تعمل على تحويل القدس إلى مدينة يهودية المعالم، ويتم الآن تحت مسمى الحوض المقدس بناء مجموعة من المعالم والمعابد تفوق بحجمها قبة الصخرة وكنيسة القيامة كي يرتفع عدد السياح من أربعة ملايين حاليا إلى عشرة ملايين قريبا.
لقد أهملت السلطة الفلسطينية مسألة القدس عندما قبلت في اتفاقية أوسلو المشؤومة أن تضع مسألة القدس ضمن قضايا الوضع النهائي، بدون النص على تجميد الاستيطان والمحافظة على الوضع القائم وعدم تغيير معالم المدينة، وكأن إسرائيل حصلت على تفويض بالعمل ليل نهار على تهويد المدينة والتضييق على سكانها الأصليين، والنتيجة التي نراها اليوم هي بقايا لأحياء عربية مخردقة ببؤر استيطانية ومحاطة من كل جانب بأحزمة من المستوطنات الضخمة. كان المرحوم فيصل الحسيني يصرخ في كل اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو فتح أو السلطة الفلسطينية بأن القدس تضيع أمام عيوننا فما أنتم فاعلون؟ وكان صراخه يذهب عبثا وقد تم تهميشه تماما من الاجتماعات. وتحولت قضية القدس بعد وفاته إلى ملف يرمى على أحد المسؤولين الذين لا علاقة لهم بالقدس إلا من حيث المولد.
إن تثبيت المكون المسيحي في فلسطين وتشجيع المغتربين على العودة إلى فلسطين والاستثمار فيها يحتاج إلى خطة شاملة يشارك فيها المسيحيون أساسا من كافة مواقعهم، مع بقية أطياف الشعب الفلسطيني من فصائل ورجال أعمال ومجتمع مدني وقطاع خاص. إن أخطر ما يمكن أن يتعرض له المكون المسيحي في فلسطين هو الانكفاء المسيحي والانسحاب من ساحة الفعل، مقابل التركيز على أسلمة القضية الذي يدفع بالتيارات المتطرفة إلى الواجهة فيكون الرد المسيحي مزيدا من الانكفاء بحجة أن هذه قضية إسلامية فقط فما دوري أنا؟
نستطيع أن نفهم أن يكون سبب التهجير المسيحي ممارسات الاحتلال المصممة لهذا الهدف أصلا، كما نتفهم أن يكون الغرب عموما يقوم بتسهيل هجرة المسيحيين، أما الذي لا نقبله ولا يمكن التساهل فيه أن يكون حفنة من المتطرفين والمتعصبين من الإسلاميين سببا في هجرة ولو مسيحي واحد كما فعلوا في العراق وسوريا. ففلسطين بدون مسيحييها قد تكون أي بلد إلا فلسطين.