يُحكى أن كاهنًا قروياً بسيطًا كان يرعى إحدى الكنائس في قرية صغيرة نائية. ولجهله بالقراءة والكتابة سأل مشورة مطرانه في كيفية تذكر موعد الاعياد المختلفة، فأوصاه المطران أن يضع في جيب ردائه، الذي يرتديه وقت تأدية المراسيم الكهنوتية، عدداً من حبات الحمص مساوية لعدد الاسابيع بين العيد الذي تم الاحتفال به والعيد القادم، بحيث يُنقص حبة واحدة من الحمص كل يوم أحد. وبالفعل نجح الكاهن بالإعلان عن الاعياد في وقتها الصحيح. إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي أخذ فيه شماس الكنيسة ثوب الكاهن ليغسله، ولانه لاحظ وجود عدد من حبات الحمص فيه قبل الغسيل، وهو لا يعلم بقصة الحمص، أراد إرجاع الحمص الى جيب الثوب، ولأنه قصد أن يُكرم الكاهن، وضع فيها حفنة كبيرة جداً. ولما جاء يوم الاحد، تحسس الكاهن جيبه ليُعلن كم من الاسابيع بقيت للعيد، فإذ به يتفاجئ بالكمية الكبيرة من الحمص المجودة بجيبه فصرخ مبشراً شعب الكنيسة "ع هالحمص ما في عيد".
ينتابني شعور مشابه لشعور كاهننا البسيط كل مرة أقرأ أو أسمع أخبارنا اليومية المحلية، إذ لا أجد فيها، إن قلّت أو كثُرت، بشارة خير. فها هو العنف ينتشر في مجتمعنا كانتشار النار بالهشيم، فلا يمر يوم إلا ونسمع أن فلان قد أصيب بعيار ناري وحالته حرجة، وآخر قد أردي قتيلاً، شجار هنا وعصابات هناك، ناهيك عن آفة المخدرات والسرقات والخاوة وقضايا النصب والآحتيال. أضف الى ذلك نسبة الفقر المتزايدة بصورة ملحوظة في مجتمعنا العربي في إسرائيل، حتى أنها تصل الى أكثر من 50%، الأمر الذي يزيد الاحباط والشعور بالعجز عند الكثيرين في مواجهة ظروف الحياة المادية الصعبة. وبالطبع لا يغيب عن ذهننا حقيقة عدم المساواة والتفرقة وازدياد التعصب الديني والسياسي والاوضاع الامنية المتوترة بصورة متواصلة. لذلك علينا أن لا نستغرب أن فكرة العيش في الغرب أصبحت فكرة مقبولة عند الكثير من شبابنا وشاباتنا، الأمر الذي يقضّ مضجع الكثير من الآباء والأمهات ويوقفنا أمام التساؤل عن دورنا ككنيسة ومؤمنين في هذه الدولة إزاء ما يحصل.
وحتى أجيب عن هذا التساؤل دعونا نعود لقصة صديقنا الكاهن. لم تكن حبات الحمص مشكلة الكاهن الحقيقة، بل جهله واعتماده على أمور قابلة للتغيير (مثلما حدث عندما تدخل الشماس)، وبالتالي لم يستطع أن يأتي ببشارة العيد للناس واستسلم للواقع معلناً الحقيقة المرة. لا أظن أننا نريد أن نقلد هذا الكاهن بأن يكون دورنا "الإعلان عن اقتراب العيد أو عدم مجيئه"، ولا بقبول ما يدور من حولنا من شر وجريمة وظلم وفساد، والشعور بعجزنا عن فعل أي أمر إزائه. كما ولا أعتقد أن الحل هو الاختباء داخل جدران كنائسنا (وأعني المجاز هنا) آملين أن أحد ما سيعالج هذه الامور الصعبة. فإن كان كل ما نفعله هو الوقوف وراء جدران الكنيسة متوقعين أن نجد الحماية والنجاة فنكون قد أخطأنا فهم دعوة الله للكنيسة. الكنيسة ليست فقط ملجأ نحتمي به وقت الضيقات، بل هي البناء الذي أسّسه وبناه الرب يسوع ليقهر به قوى الشر والظلام حتى أن "أبواب الجحيم لن تقوى عليها". فإن كان الشر قد ثبّت مخالبه في مجتمعنا وغرس أنيابه فيه، فوظيفة الكنيسة إذن ان تتحداه وتهزمه، وإن كانت الصورة التي نراها من حولنا قاتمة ومظلمة فدعوة الكنيسة أن تكون النور الذي يضيء وسط هذا الظلام، وإن كانت الظروف لا تبشر "بالعيد" فدور الكنيسة أن تصنع "العيد". وإن قبلنا بغير ذلك نكون قد سمحنا لابواب الجحيم أن تقوى علينا.
لا أقصد من خلال ما سبق طرح مجرد فكرة، بل قصدي هو حثّ بعضنا البعض على إتخاذ خطوات عملية لنعطي الرجاء والأمل للشباب والشابات، للفقير والمحتاج، للمظلوم والمتألم. هذا يحتّم علينا أن نتحد مع بعض كجسد واحد تاركين إختلافاتنا جانباً، هذا يعني تحملنا المسؤولية التي وضعها الله على عاتقنا خاصة في التعامل مع التحديات الموجودة وصنع تغيير في المجتمع. هذا سيدعو لتكريس الوقت للصلاة وطلب مشورة وحكمة الله وإرشاده للتعامل مع ما يجري من حولنا. هذا يعني أيضاً إستثمار ساعات كافية لوضع رؤيا وتحديد أهدافنا وطرق عملنا. هذا يعني حساب النفقة، فهذا العمل يتطلب منّا تضيحة الوقت، الجهد والمصادر البشرية والمادية. لكن قبل كل شيء هو يتطلب إيمان بأن للكنيسة دور في صنع التغيير وثقة بالإله الحي الذي نعبده أنه قادر أن يتدخل في أصعب وأحلك الظروف. إن فشلنا بالقيام بهذه الخطوات فسنسمح للشر أن يحدد مستقبل أولادنا، كنائسنا ومجتمعنا. إننا بالحقيقة على ضوء هذه الظروف الصعبة أصبحنا أمام خيارين، فإما أن نتحدّى الشر بإيمانٍ عاملٍ ونسعى لنكون مؤثرين، أو نرضى بما قسمه الدهر لنا ونكتفي بأملٍ بقدر حباتِ الحمص التي وضعتها هذه الايام الشريرة في جيوبنا.