في خضم وأوج العطلة الصيفية نرى كمًا لا بأس به من الناس، إن لم يكن كلهم، منهمكين في "بحور الاستجمام" على شتى أنواعها، فهذا يجهز العدة للسفر وذاك يفتش على متنزه يقصده، نرى الأولاد يطرقون المخيمات الصيفية على كافة الأجيال، أو أولئك الذين يرتبون لرحلة خارج البلاد في الدقيقة ال- 90 أو بواسطة وكيل سفر هذا أو آخر وهلم جرا ...
هذا الانهماك المتزايد من صيف لآخر نراه يتسارع في العقد الأخير بشكل واسع، حتى إنك قد تُعتبر إنسانا شاذا إذا لم تنخرط في هذا الانهماك ...
للأسف، هذا الجرف من الانشغال أدى إلى ما يسمى بعدم القناعة عند الجيل الصاعد، فضغط المجموعة فرض واقعا بحسبه إذا لم يسافر الولد على الأقل مرة في السنة خارج البلاد فينتظر الأهل محاكمة شرسة من قبل أولادهم وحسابا ما بعده حساب: "كيف يسافر ابن الجيران وأنا لا"، وأسئلة أخرى تتهافت قد تؤزم الوضع عند الأهل وتزيده حرجا مثل: "لماذا يسافر ابن الجيران بالطائرة إلى إيطاليا أو أنطاليا أو اليونان أو ألمانيا، بينما نحن نسافر بالسيارة برحلة في البلاد أو طابا أو الأردن ؟!" (طبعا دون المس بأي بلد، فأنا شخصيا من أصحاب الفئة الثانية !!).
هذه الأسئلة قد تتوسع لمواضيع أخرى، والصيف هو مثال لنوع من أنواع أسئلة كثيرة كالملابس ("الموتاغيم") ونوع السيارة أو ثمنها عدد السيارات عند العائلة وضخامة البيت وجماله وقصد المطاعم وغير ذلك ...
السؤال أين نحن حيال هذا الوضع أو هذه الأسئلة التي قد نواجهها من أولادنا ومجتمعنا ؟
شخصيا لا يوجد في جعبتي معادلة معينة لحل هذه المعضلة، وقد تكون كذلك عند الكثير من العائلات، ولكن باعتقادي أن الأمر يحتاج إلى ما يسمى بالتعامل الحازم والحكيم واللطيف في آن واحد من طرف الوالدين تجاه بنيهم، فمن جهة لا يوجد لدينا نية بحرم أولادنا من "المشاوير" والاستمتاع بالعطلة الصيفية كباقي الناس حولنا، ومن جهة أخرى حري بنا أن نوصل أولادنا لقناعة أن هناك حدودا لكل أمر نعمله ونقوم فيه، وهذا يتعين برأيي بعاملين رئيسيين، الأول مادي والآخر تربوي. المادي هو تحديد ال"مشوار" وفق الحالة الاقتصادية للزوجين، والتربوي هو أن نغذي أولادنا بما يسمى بالقناعة والاكتفاء بالمتيسر بين أيدينا، كما قال بولس في رسالته إلى الشاب تيموثاوس: "فأن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما" (1 تي 6 : 8).
نعم، قد تكون المهمة ليست بسهلة، ولكن ليست مستحيلة، ومما يسهل تحقيق هذه المعادلة هو الصلاة ﻷجل أولادنا ومعهم ببناء مذبح عائلي مستمر، وكذلك تربيتهم على وجوب وضع ضوابط في الحياة اليومية وتعليمهم لغة الشكر في وعلى كل شيء وان الرب يسدد احتياجاتنا بحسب غناه في المجد (فيلبي 4 : 19).
من المهم كذلك خلق جو من المحبة والسلام في بيوتنا، وهذا من شأنه أن يغذي ويشبع نفوس أولادنا ويأتي بالفرح الداخلي على حياتهم، وعندها سوف تُزرع في أحشائهم بذور القناعة وتتشكل لديهم حياة الاكتفاء بالموجود من دون أن نجاهد في إقناعهم بذلك كلاميا، كذلك من الجدير بنا أن نضع في إدراكهم أن هناك الكثير من العائلات عامة والأولاد خاصة التي تفتقد للقمة العيش، فهم ينهضون في الصباح ليفتشوا كيف بوسعهم إسناد بطنهم من الرمق وبلّ ريقهم من غليل العطش، ناهيك عن أولئك الذين ينامون في الشوارع والحقول بلا سقف أو أهل أو أخوة ...
ليتنا نشكر الله على ما نحن فيه، ونعلّم أولادنا حياة الشكر والقناعة والاكتفاء، وكل ما نعمل ونقول ونفكر أن نعمله بقلب شاكر ونفس شبعانة، عندها نستطيع أن نقول مع سليمان الحكيم: "النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كل مر حلو" (أمثال 27 : 7).