يعجز القلم ان يجد الكلمات التي تصف الحالة البائسة التي يعيشها العرب في وقتنا هذا. فنزيف الدم في سوريا يستمر بغزارة والعرب اما يقفون مكتوفي الأيدي واما يدعمون طرفاً فيها ضد الآخر. كما تستمر داعش في نهج البطش والقتل أينما وصلت اياديه النجسة دون رادع. كما يبدو ان حكام العرب يتنافسون فيمن يفلح اكثر في كبت الحريات الإنسانية والدينية ضد الشعوب العربية ككل. ولكي تشتد صورة الوضع حلكة نشير لركود البحث العلمي والنمو الاقتصادي ووصولها للحضيض، وان رأينا مظاهر استهلاكية فاحشة في مدن الخليج وافرة الثراء البترولي.
وتأتي وطأة الوضع المزري أكثر شدة على المسيحيين العرب في الأقطار العربية منها على غيرهم. فبعجز الأنظمة العربية يصبحون لقمة سائغة للمجموعات الإرهابية التي تبطش بتلك الفئة المسالمة. وما تفجيرات طنطا والإسكندرية يوم عيد الشعانين الا ذكرى مؤلمة لمآسي تهجير الموصل وتدنيس معلولا وقطع رؤوس الاقباط في ليبيا ومذابح ماسبيرو والكنيسة البطرسية في العباسية وكنيسة القديسين في الإسكندرية وغيرها وغيرها.
ولربما كان سبب هشاشة المسيحيين واحساسهم بثقل يد الاجرام الإرهابي عليهم هو كونهم يعيشون كاقلية ذات دين مغاير لدين الدولة في الشرق ويعانون جراء ذلك من تمييز وتهميش ممنهج حتى في الأيام الاعتيادية.
ان هذا الوضع يأتي بالكثيرين من المسيحيين العرب للسعي للهجرة من ارض ابائهم واجدادهم للغرب او يقودهم للتقوقع في عقلية انحسارية فيعيشون في غيتو وينفصلون عملياً عاطفيا ونفسياً عما يدور في فلك بلادهم فيعيشون حالة اغتراب في عقر اوطانهم.
ورغم الامن والرفاهية الاقتصادية النسبيتين مقارنة بالدول العربية لكننا نجد نفس الظاهرة عند المسيحيين العرب في بلادنا ايضاً. اذ تبنت اعداد متزايدة منهم مواقف كراهية للعروبة او لما هو فلسطيني وللحضارة والثقافة المشتركين. يعيش هؤلاء عزلة عن مجتمعهم ويميلون احياناَ كثيرة للتعصب الديني والفئوي الضيق. البعض منهم يقارن أوضاعه بتلك التي لمسيحيي البلدان المجاورة فيعتبرون انفسهم محظوظين بعيشهم في الدولة العبرية. ومن هنا يتخذون ايضاً مواقف موالية للدولة متناسين مآسي النكبة والاحتلال والتمييز. انهم يسعدون بالفتات والتهميش على مذبح الامن الشخصي. في المقارنة والمقاربة بين داعش وحماس من جهة وبين الليكود والمعسكر الصهيوني من جهة أخرى - يفضلون الأخير.
من الصعب على كل ذوي توجه صادق ان يلوم هؤلاء المسيحيين على هذه النزعة اثر استهدافهم وملاحقتهم وقتلهم في الأقطار العربية المختلفة. ولكن هل باليد حيلة؟ كيف نوقف هذا النزيف عند المسيحيين؟
اعتقد انه من واجبنا كمسلمين أولا وكمسيحيين ثانياً في بلادنا ان نضع نصب اعيننا هذا الخطر الذي يهدد وحدة شعبنا واقتلاع فئات منه. ان نتيجة نجاح رد الفعل السلبي هذا عند المسيحيين (وربما عند فئات أخرى ايضاً) هو تفتيت شعبنا وفقدان جماله كفسيفساء متنوع وغني. ولن ينتهي الأمر عند المسيحيين بل سيطال الفئة بعد الأخرى لنهش هذا الشعب وعدم الكف عن ذلك الا حين يبقى كشرذمة مقسمة في كانتونات تديرها ايادي غريبة وقد قضى عليها بالتخلف والاعاقة الدائمين. ان انسلاخ فئات مجتمعية كالمسيحيين مثلا عن شعبنا هي احدى اسقاطات المد الاصولي فقط. انها تودي بشعبنا ايضاً الى غياهب الظلمة والتحجر الفكري وهذه وصفة اكيدة للزوال.
ان محاربة هذا السوس الذي ينخر العمود الفقري للشعب يبدأ على الصعيد الفردي لتتبعه لاحقا محاربة مؤسساتية فحزبية ومن ثم قطرية عامة. من الضروري ان نبدأ بالوقوف وقفة شخص واحد ضد كل فرد يكفر الآخر أو يهمشه فان هذه الأصولية الدينية والفئوية هي مصدر الآفات التي تلم بشعبنا.
تلزمنا روح قبول شمولية تطغى على الأجواء في بلدنا أولا فتجمع ولا تفرق وتحتفل بالمختلف. تلزمنا روح شجاعة ترفض وتحارب كل الفئات الظلامية التي تقصي الآخر وتصنفه أنه كافر.
سنعيش لنرى ونحلم بنهضة علمية وثقافية عربية فقط إذا عشنا التعددية والقبول وتحقيق هذا الحلم منوط بكل واحد منا.