جميعنا نقرأ إنجيل يوحنا من منظور معيّن.[1] لندعو هذا المنظور العدسة التفسيرية أو الطريقة التي ننظر بها إلى النص. ننظر بعيوننا فنرى ما تراه العين المجردة ولكن عندما نستخدم ميكروسكوبا نرى أمورا أخرى. فقد نرى كائنات صغيرة لم نستطع أن نراها بالعين المجردة. وتتنوع النظرات بتنوع النظّارات أو المنظور. وقد تكون نظاراتنا صفراء أو حمراء، تكبّر أو تصغّر النص، تضخم أو تقلل من أهمية الأمور، أو ربما تجعل النص فاتحا ومبهجا أو غامقا ومزعجا. فما نوع النظّارة أو لون العدسة التي نستخدمها وما العوامل التي تؤثر في تكوينها؟ أهي عدسة مسيحية أم يهودية أم إسلامية؟ أهي عدسة كاثوليكية أم معمدانية أم قبطية أم ارثوذكسية؟ والعدسات التفسيرية المقصودة هي عين الدماغ وجزء منه. إنها الذهنية التي تحدد طريقة النظر إلى النص. ولهذا يتفق المفكّرون أن العدسة التفسيرية أو ذهنيتنا تتأثر وتتّشكل بواقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي والديني.
ومن الجهل أن ندّعي أن تفسيرنا كتابي محايد، فالحياد في التفسير وهمٌ بعيدٌ عن أرض الواقع.[2] ومن الحكمة أن نعترف بأن خلفياتنا تؤثّر على طريقة تفكيرنا وأن افتراضاتنا تؤثّر على تقييمنا فنتواضع لنصغي للآخرين باحثين عن الحق. بإيجاز، تتعدد التفاسير وتتنوع. فبعض التفاسير والعظات من إنجيل يوحنا تصطبغ بصبغة صهيونية، بعضها كاثوليكية وأخرى بروتستنتية، بعضها صحيحة وأخرى مضللة. وأحيانا تقرّبنا عدستنا التفسيرية إلى الحق الإلهي وأحيانا أخرى تبعدنا عنه. ويبقى الله هو الحاكم والمرجع النهائي للحق إذ عنده وحده كل الحق. ويبقى الزمن عاملا مهما في التمييز بين الحكمة الأبدية والأفكار الفانية. من هذا المنطلق وبذهنية تشدد على رفض الكبرياء والتعالي والاستخفاف بالرأي الآخر، أقدم لكم قراءةً لإنجيل يوحنا بعيون مسيحية فلسطينية.
سأبدأ بوصف عدسات تفسيرية أخرى من حولي. فمثلا، يؤمن العديد من "المسيحيين اليهود"، أو المسيحيين من أصل يهودي، أن الثقافة "اليهودية" ضرورية لفهم السيد المسيح وإنجيل يوحنا بصورة صحيحة.[3] ويشدد هؤلاء المفسرين على الثقافة اليهودية كأساس لفهم النص المقصود.[4] لكنهم يخطئون عندما يتحدثون عن "يهودية" واحدة بدلا من "يهوديات" متعددة. فهناك اليهودية الفريسية واليهودية الأسينية واليهودية الصدوقية وغيرها من اليهوديات في القرن الأول، ناهيك عن اليهوديات عبر القرون. ويَضلُّ البعضُ الآخر عندما يُساوون بين اليهودية والعهد القديم. فاليهودية الرابانية، على سبيل المثال، لا تتمحور حول الكهنوت والهيكل والذبائح. علاوة على ما سبق، لا يفرّق البعض بين يهودية يسوع ويهودية مواطني دولة إسرائيل الحديثة. فتصبح يهودية يسوع مُنفرة للفلسطيني والعربي. وتصبح يهوديته حاجزا يفصل أتباعه اليهود عن أتباعه غير اليهود. ويفشلون أيضا في إدراك المعنى اللاهوتي لليهودية بسبب إهمالهم لحقيقة خلو يهودية السيد المسيح من أي أنانية أو خطيئة أو عنصرية أو إقصائية. فيتجاهلون تفرّد يهوديته وتفرّد تجسيدها لأحلام العهد القديم الذي دعا كل الشعوب أن تعبد الله الواحد وانتظر أنبياؤه يوما تتجذر فيه أحكام الله وقوانينه في الناس، فيكون الناموس في قلوبهم.
وثمة فريق آخر من اليهود يقرؤون إنجيل يوحنا بصورة سلبية. فيشعرون بالحرج. فمثلا تعترض أديلي راينهرتز اليهودية على وصف يسوع أن بعض يهود القرن الأول الذين رفضوه نسلٌ شيطانيٌ غير مؤمن (يوحنا 8: 44) وعمي وخاطئون وعاجزون عن فهم كتابهم المقدس.[5] كما أن بعض اليهود الإسرائيليين غير معنيين بيسوع المسيح إطلاقاً إذ يدعونه "يشو" وهذه الكلمة اختصارٌ أو اختزال لجملة عبرية تعني " لِيُطمس اسمه وتُمحى ذكراه".[6] ويصف اليهود في إسرائيل السيد المسيح بعبارة "يشو" في التلفاز والجرائد والمتاحف.
من ناحية أخرى، يؤكد بعض الفلسطينيين أن ثمّة تواصل حضاري وثقافي وسياسي وجغرافي وسيكولوجي بين الشعوب المضطهدة التي عاشت على أرض فلسطين عبر العصور.[7] وبحسب هذا الادعاء يشمل التواصل الحضاري الفلسطينيين المعاصرين مما يجعل يسوع فلسطينياً بسبب إنتمائه الجغرافي والثقافي والسياسي والسيكولوجي. ولهذا يجادلون أن هويُة المسيح وأعمالُه تُجّسد آمالَ الفلسطينيين وتمثّلهم أكثر مما تمثّل شعوباً أخرى. ويرى كثير من المسلمين في يسوع نبيّاً فلسطينياً، بل يؤمن بعضهم أن إنجيل يوحنا تنبأ بمجيء محمد نبيّ الإسلام. ويجادلون أن مدلول الكلمة اليونانية "الباراكليت" هو محمد وليس الروح القدس.[8] ومن نحو آخر يرى كثير من المسيحيين الفلسطينيين أنه يسوع المسيح هو ابن الله المولود في بلدة بيت لحم الفلسطينية، أما عدد من اللاهوتيين المنخرطين في حركة لاهوت التحرر الفلسطيني فيؤكدون أكثر من ذلك، إذ يعتقدون أن يسوع الفلسطيني يواجه هيرودس ثانية من خلال صراع الكنيسة الفلسطينية مع الاحتلال الاسرائيلي.[9] لقد جعلنا يسوع جزءا من الصراع بدلا من أن يكون جزءا من الحلّ. فبالغنا بتأكيد يهودية يسوع أو فلسطينيته. ولا شك أن هوية يسوع وأعماله وتعاليمه مهمة لنا جميعا. وكلما زاد فهمنا لها زاد فهمنا الله وخطته للبشرية جمعاء. ولهذا سأقوم بهذه الدراسة لأقدم المسيح كما يقدمه إنجيل يوحنا وسأقدمه بعيون مسيحية فلسطينية وبنظارات إنجيلية.
رجائي أن تعيننا هذه المقالات على اكتشاف السيد المسيح وعلى اكتشاف هويتنا فيه. ولا أنكر أن المقالات ستشكل تحديا للقارئ المسيحي الصهيوني إذ أن إنجيل يوحنا سيهزّ أساسات أي إيمان لا يشدد على مركزية السيد المسيح والنظام العالمي الجديد الذي حلّ بقدومه. وهذا ما سأشرحه في المقالات القادمة.
[1] تزودنا المراجع التالية بمعلومات مفصّلة عن المقاربات التفسيرية المختلفة لإنجيل يوحنا
Frank Pack, “The Gospel of John in the Twentieth Century,” Restoration Quarterly 7 (1963): 173 – 185; Harold Songer, “The Gospel of John in Recent Research,” Review and Expositor 62 (1965): 417 – 428; Robert Kysar, “The Gospel of John in Current Research,” Religious Studies Review 9 (1983): 314 – 323; Mark Stibbe, The Gospel of John as Literature: An Anthology of Twentieth-Century Perspectives (Leiden: Brill, 1993).
[2] الوصف "كتابي" شائع في الأوساط الإنجيلية وعادة المقصود به هو التفسير الصحيح للكتاب المقدس أو التفسير الإلهي الذي يجب أن يكتشفه كل إنسان صادق في بحثه عن الحق. ويتجاهل المصطلح دور المفسرة أو المفسر البشري وانحيازه لعقائد كنيسته، فيكون التفسير الكتابي هو تفسير كنيسة المفسر أو تفسيره الشخصي. ويهمل هذا التوجه ترجمات الكتاب المقدس وتنوع مخطوطات النصوص الكتابية وتاريخ تفسيرها في الكنائس المختلفة وتطورات علوم التفسير والعلوم الاجتماعية والأركيولوجية. ويأخذ المفسر مكان الله وكأنه أو كأنها تقول: هكذا يقول الرب. وكل من لا يوافق على التفسير المقترح يعارض الله نفسه. ولا أنكر أننا نستطيع أن نستخدم المصطلح إن اعترفنا أن تفسيرنا ليس محايدا وهو قابل للفحص والنقد والحوار مع الكنيسة الجامعة وأئمة العلوم اللاهوتية. فلا ضير من تأكيد قناعاتنا مادمنا ندرك محدودياتنا وما دمنا نتحلى بفضائل ملكوت الله من محبة وتواضع وعدل وبر.
[3] تتنوع وجهات نظر المسيحيين اليهود إذ يقبل بعضهم التفاسير الكنسية التي سادت عبر العصور بينما يرفض أغلبيتهم الثقافة الهيلينية التي شكّلت لغة الإيمان الكنسي وطرق التعبير عنه. ولهذا يرفضون استخدام مصطلح "كنيسة" أو التعابير المذكورة في قوانين الإيمان الكنسية مما يشكّل تحديات كبيرة في التواصل العقائدي. للمزيد من التفاصيل حول مواقف المسيحيين اليهود، راجع كتاب اليهودي المتنصر ريتشارد هارفي
Richard Harvey, Mapping Messianic Jewish Theology (Milton Keynes: Paternoster, 2009), 96–139.
[4] راجع على سبيل المثال لا الحصر كتاب إيلي إيزنبرغ
Eli Lizorkin-Eyzenberg, The Jewish Gospel of John (Tel Aviv: Lizorkin-Eyzenberg, 2015).
[5] Adele Reinhartz, “A Nice Jewish Girl Reads the Gospel of John,” Semeia 77 (1997): 177–193, 179. See also Adele Reinhartz, Befriending the Beloved Disciple: A Jewish Reading of the Gospel of John (New York: Continuum, 2001).
[6] الجملة العبرية هي: ימח שמו וזכרו (يُمح – شمو – فزخرو)، والترجمة الحرفية هي: ليُمحى اسمه وذكراه.
[7] Mitri Raheb, “Toward a Hermeneutics of Liberation: A Palestinian Christian Perspective,” in The Biblical Text in the Context of Occupation: Towards a New Hermeneutics of Liberation (ed. Mitri Raheb; Bethlehem: Diyar, 2012), 11 – 27; Mitri Raheb, Faith in the Face of Empire: The Bible Through Palestinian Eyes (Maryknoll: Orbit Books, 2014).
[8] أحمد السقا، بيركليت: اسم نبي الإسلام في إنجيل عيسى عليه السلام حسب شهادة يوحنا (القاهرة: مكتبة المطيعي، 1972)، 24-68؛ فاروق عبد السلام، محمد في إنجيل يوحنا (القاهرة: مركز السلام للتجهيز الفني، 2006). 69-99؛ محمد زهران، إنجيل يوحنا في الميزان (الزقازيق: دار الأرقم، 1991)؛ أمير يكن، محمد رسول الله في كتابات القديس يوحنا (دمشق: مكتبة الأسد، 1999).
[9] للمزيد من المعلومات عن لاهوت التحرر الفلسطيني راجع: نعيم عتيق، الصراع من أجل العدالة: لاهوت التحرر الفلسطيني (بيت لحم: دار الكلمة، 2002). راجع أيضا المراجع الأنكليزية التالية:
Naim Ateek, A Palestinian Christian Cry for Reconciliation (Maryknoll: Orbis, 2008); Mitri Raheb, I am a Palestinian Christian (Minneapolis: Fortress, 1995); Yohanna Katanacho, “Palestinian Protestant Theological Responses to a World Marked by Violence.” Missiology: An International Review 36 (2008): 289-305.