لعل العبارة التي لخصت بها الفنانة الكبيرة يسرا، زيارة قداسة البابا فرنسيس الى مصر في نهاية شهر نيسان تختصر كل التعليقات: "البابا تحدى العالم والارهاب وخفافيش الظلام بهذه الزيارة التي لن ينساها المصريون". نعم فقداسة البابا فعلا تحدى الارهاب وانتصر عليه عملا بقول معلمه الأول وسيده يسوع المسيح، له المجد، الذي قال " ولكن اطمئنوا تماما فاني قد غلبت العالم" (يو 16:33). وهكذا جاء البابا الى مصر ولم يؤجل زيارته المخططة بعد انفجارات الكنائس في الاسكندرية وطنطا من ديسمير الماضي، حيث توقع الكثيرون أن يخضع البابا للارهاب ويقوم بالغاء زيارته لمصر أو تأجيلها في أفضل الأحوال، لكن قداسته خيب آمال من توقع ذلك وأعلن قبل الزيارة " أتمنى أن تكون هذه الزيارة بمثابة عناق تعزية وتشجيع لجميع مسيحيي الشرق الأوسط؛ ورسالة صداقة وتقدير لجميع سكان مصر والمنطقة؛ ورسالة أخوة ومصالحة بين جميع أبناء إبراهيم، وبصفة خاصة، مع العالم الإسلامي الذي تحتل مصر فيه مكانة رفيعة".
لماذا أصرّ قداسة البابا على زيارة مصر رغم الاعتداءات الارهابية الظلامية على عدة كنائس وبيوت مسيحية وقتل مسيحيين أبرياء وكان آخرها في سيناء، ورغم مخاطر تعرضه لمحاولة اغتيال أو تخريب الزيارة بانفجارات جديدة؟ انها الرسالة، فقداسته أعلن أنه يحمل في زيارته هذه رسالة تعزية للمحزونين ورسالة تشجيع للمستضعفين من المسيحيين، ورسالة صداقة لأهل مصر ورسالة مصالحة مع جميع المؤمنين ورسالة إسهام مفيد في حوار الأديان وفي الحوار المسكوني، ورسالة أخوة لشركاء الوطن والمصير من المسلمين.
لن أتمكن في هذه العجالة التوقف عند كل الرسائل بالتفصيل والتمحيص كما يجب، لذا سأمر عليها بسرعة مشيرا الى أهم ما تحمله من معان وتأكيدات، على أن أعود اليها بالتفصيل في مقام آخر.
في لقائه مع رئيس جمهورية مصر، عبد الفتاح السيسي الذي كان أول المستقبلين له، أكد قداسة البابا أن مصر مدعوة لتقديم السلام للعالم أجمع، قائلا: "إن مصر تبني السلام بيد وبالأخرى تحارب الإرهاب، وعليها أن تثبت أن الدين الله والوطن للجميع، وكان هذا شعار ثورة 23 يوليو 1952". في هذه العبارة أكثر من اشارة، فقداسته يثني على دور مصر الرسمي في بناء السلام ومحاربة الارهاب، لكنه لا يرى أن مصر تعمل بما فيه الكفاية لمحاربة الارهاب والتطرف والتكفير، بدليل أنه عاد الى تذكير القيادة الحالية لمصر بأهم مبدأ لثورة 23 يوليو الخالدة وهو "الدين الله والوطن للجميع"، الشعار الذي تبناه الرئيس جمال عبد الناصر وانتشر في كل أدبيات الثورة وكان نهج الحياة في ظل حكمه، وبعد ذلك تم الانقلاب على هذا المبدأ كما جرى الانقلاب على جل مباديء الثورة في عهد السادات وبعده مبارك، واليوم السيسي الذي ما زال مقصرا في تصحيح المسار والعودة الى مباديء الثورة الحقيقية التي أرست لحياة جديدة في مصر شهدت ليس هدوءا داخليا فحسب، بل عيشا مشتركا لم يشهد أي اعتداء على الكنائس والأديرة أو المواطنين المسيحيين.
وفي لقائه الثاني مع الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف قال قداسة البابا على مسمع منه ومسمع العالم، في مؤتمر الأزهر العالمي للسلام: "لنكرر معا، من ھذه الأرض، أرض اللقاء بين السماء والأرض، وأرض العھود بين البشر وبين المؤمنين، لنكرر- لا- قويّة وواضحة لأي شكلٍ من أشكال العنف، والثأر والكراھية يرتكب باسم الدين أو باسم الله". هذه الرسالة التي أكد عليها قداسة البابا أكثر من مرة وفي أكثر من موقع، يعود عليها في رحاب الجامع الأزهر الشريف بكل وضوح ومباشرة، ويقصد أنه كفى للحديث بخجل واطلاق تصريحات عامة، فالخطوة الأولى في محاربة الارهاب الديني التكفيري المتطرف، تتطلب الصراحة والمباشرة والوضوح بقول كلمة "لا" صريحة، وفي هذا يستلهم ثانية نهج معلمه السيد المسيح، له المجد، الذي قال: " ولكن ليكن كلامكم نعم أو لا. فما زاد على ذلك فهو من الشرير" ( متى 5:37). أي دون تسويف أو وضع أي حرف عطف بعده، وهذه "اللا" يجب أن تكون واضحة أمام ممارسة العنف باسم الدين، لم يعد الظرف يقبل" لكن"، فهذا العنف المستشري باسم الدين زورا وبهتانا، يجب ألا يجد له مكانا أو جزءا من مكان في تفكيرنا وكلامنا بشكل مطلق.
والتقى قداسة البابا الكاثوليكي فرنسيس بقداسة البابا القبطي، تواضروس الثاني في المقر البطريركي للأقباط الأرثوذكس بالعباسية في القاهرة، وهناك وجه بابا الكاثوليك رسالته لأقباط مصر قائلا: " كم مِن الشهداء في هذه الأرض، منذ القرون الأولى للمسيحية، عاشوا الإيمان بطريقة بطوليّة حتى المنتهى، مفضّلين سفك دمهم على إنكار الربّ والاستسلام لإغراءات الشرّ أو حتى لتجربة الردّ على الشرّ بالشرّ". وفي هذه الرسالة يقدم قداسته شهادة لمسيحيي مصر تؤكد على عمق ايمانهم وتعزز هذا الايمان الذي لا يكتمل إلا بدفع الثمن، وفي هذا أيضا يذكرنا بقول السيد المسيح، له المجد، الذي نبه أتباعه منذ البداية بما سيتعرضون له، وقداسته يكبر ردود أقباط مصر على ما يتعرضون له من قتل وانفجارات، وتمسكهم بايمانهم أولا وعدم انجرارهم وراء الشر الذي يريدهم اللجوء الى العمل المماثل والذي سيجرهم ويجر أبناء الوطن الواحد للاقتتال والاحتراب، لكن عدم وقوعهم في التجربة أنقذ البلاد من الشر المحيق بها وأكد أن المسيحيين المصريين يسيرون على درب سيدهم ومعلمهم الأول.
أما الرسالة التي وجدت لها ترجمة فورية على أرض الواقع، فهو الاتفاق الهام الذي توصل اليه قداسة البابا فرنسيس وقداسة البابا تواضروس الثاني، والذي يساهم في تعزيز وترسيخ مسيرة المصالحة والتفاهم بين الكنيستين وتمثل في توقيعهما على بيان مشترك تضمن اتفاقا هاما ينص على اعلانهما " وبشكل متبادل، بأننا قررنا عدم إعادة سر المعمودية الذي تمَّ منحه في كلٍّ من كنيستينا لأي شخص يريد الانضمام للكنيسة الأخرى"، وهذا بحد ذاته خطوة هامة على درب توحيد الكنائس من شرقية وغربية.
تحتاج رسائل قداسة البابا فرنسيس التي تركها في زيارته التاريخية لمصر الى من يفهمهما ويذوتها ويعمل بموجبها، فهي ليست موجهة للمسيحيين فقط ولا تعود عليهم بالفائدة لوحدهم، انما هي جاءت لخدمة كل المواطنين بكل انتماءاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والاجتماعية، ولعل الكاتب والمحلل د. وحيد عبد المجيد من أوائل الذين أدركوا ذلك حيث جاء في ختام مقال له تعقيبا على زيارة قداسة البابا: " ولذلك نقول للبابا فرنسيس الذى يُشرفنا بزيارته: طوبى لكل من يستوعب رسائلك ويتأمل دلالاتها ويراجع مواقفه فى ضوئها".
(شفاعمرو/ الجليل)