يتحدث الكثيرون عن إعادةِ بناء الهيكلِ. ويربطون عملَ اللهِ بين اليهودِ بالهيكلِ الثالثِ الذي سيُبنى بحسب ادّعائهم.[1] وفي حَقبتِه تتحققُ وعودُ وأحلامُ العهدِ القديمِ المتعلقةِ بالشعبِ اليهوديّ وباقي الشعوب ويتحققُ فيه وعيدُ الله بضيقةٍ عظيمةٍ.[2] فما موقف يُوحَنّا من المكانِ المقدّسِ؟ وكيف نُعيد قراءة مفهومِ المكانِ المقدّس في ضوءِ النظامِ العالمي الجديدِ الذي يشرَحَهُ يوحَنّا؟ تحدّثنا في المقدّمةِ عن المسيح الشمولي الذي يقدّمُه يُوحَنّا بواسطة إعادة قراءةِ المكونات اليهودّية الفريّسية في ضوء مركزية يسوع المسيح. فما علاقة الهيكل والمكان المقدّس بالمسيح الشمولي الذي يَعرِضه يُوحَنّا؟ ما علاقة هيكل الحجارةِ بهيكل البشارةِ أو بربّنا يسوع المسيح الذي تجسّدت فيه البشارةُ السارةُ؟
لا شك أنّ الهيكلَ مهمٌ ومركزيٌ في الفترةِ المعروفة بحقبة الهيكلِ الثاني. فمُنذ رجوع اليهود من السبي في القرنِ السادس قبل الميلاد وحتى دمار الهيكلِ سنة 70 ميلادي كان الهيكلُ هو مكان سُكنى الله بحسب المعتقد اليهودي. إنّه مركزُ الحياةِ الدينيةِ ومكانُ الحصولِ على الغفرانِ، ويُجسّد الهيكلُ تاريخَ تعامل اللهِ مع شعبهِ وأمانتَه عبرَ الزمنِ. وهو أيضا المستقبلُ إِذ حَلِمَ اليهودُ بيومٍ يأتي فيه كلُ الشعوبِ إلى الهيكلِ وهناك تنتهي الحروبُ. كان الهيكلُ هويةَ الشعبِ وَعَلَمَهم الديني والسياسي. وعندما يَفقدُ الشعبُ الهيكلَ فإنهم يَفقدون الهويةَ والتاريخَ والبركةَ والاستقرارَ والحياةَ الدينيةِ فيعيشون التغرّب والتّيهان. وَكَأَنّ فُقدانَ الهيكلِ صليبٌ دونَ قيامةٍ. إنّه موتُ اللهِ وانتهاءُ الخيرِ. ولهذا يجب أنْ نُصْغِي جيداً عندما يتحدّث النصُ عن نقض الهيكل إِذ يقول السيدُ المسيح ليهودِ أورشليم: "انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيامٍ أُقيمه" (يُوحَنّا 2: 19). لقد عَلَقَت هذه العبارات بأفكار يهود القرنِ الأولِ وتذكّروها عندما حاكموا يسوع. فبحسبِ شهادةِ البشير متى، تقدّم شاهدُ زور وقالَ عن يسوع: "هذا قال: إني أقدر أنْ أَنقضَ هيكلَ الله، وفي ثلاثةِ أيامٍ أبنيه" (متى 26: 61). ويقولُ البشيرُ مرقس: "قامَ قومٌ وشهدوا عليه زورًا قائلين: نحن سمعناه يقول، إني أنقضُ هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيامٍ أبني آخر غير مصنوع بأياد" (مرقس 14: 57 – 58). من الواضح أن كلمات يسوع عن الهيكل كان لها وقعٌ كبيرٌ في نفوس الذين سمعوها. فاعتقدوا أنها تكفي لإدانته بالموت.
ولِنفهم تميّز يوحنّا في طرحه يجب أنْ نوضّح بعضَ القضايا التاريخيةِ المتعلقةِ بالهيكلِ. سقطت أورشليم في يدِ أنطيوخس الكبير في القرن الثاني قبل الميلاد. وبدأ انطيوخس والسلوقيون بإرغام اليهود على التأغرقِ أو قبول الهيلينةِ. وأمرَ أنطيوخس بممارسة الشعائرِ الوثنيةِ في أورشليم فأقام تمثالا للإله زيوس في الهيكل سنة 167 ق. م. وقام جنودُه بذبح الخنازير على مذبح الهيكل (مكابيين الأول 1: 29-64؛ مكابيين الثاني 6: 1-9). فثار المكابيون واستردوا الهيكل سنة 164 ق. م. ثم طهّروه وبنوا مذبحا جديدا (مكابيين الأول 4: 36-61؛ مكابيين الثاني 10: 1-8). واحتفلوا لثمانية أيام (مكابيين الأول 4: 56؛ مكابيين الثاني 10: 6) جاعلين الاحتفال عيدًا سنويًا (مكابيين الأول 4: 59؛ مكابيين الثاني 10: 8). ويذكرُ إنجيل يُوحَنّا هذا العيد داعيًا إياه بعيد التجديد (يُوحَنّا 10: 22). وهو عيدُ الحانوكاة أو عيد الأنوار الذي يحتفلُ به اليهودُ اليومَ. ومنذ تحرير الهيكل من الوثنية حَمَلَ اليهودُ سعوفَ النخلِ في احتفالاتهم بتجديد الهيكل (مكابيين الثاني 10: 7). وارتبطت ذكرى سعوف النخل بتقديس الهيكل. فلا عجب أن تربط الأناجيل الإزائية (متى ومرقس ولوقا) دخول يسوع إلى أورشليم بتطهير الهيكل (متى 21: 1-17؛ مرقس 11: 1-19؛ لوقا 21: 28-48). فليس من المستغرب أن يتبع قدومه إلى أورشليم دخوله إلى الهيكل وطرده أولئك الذين جعلوا بيت الله مغارة لصوص. ولكن المثير للعجب أن المكابيين طردوا الوثنيين حين قدّسوا الهيكل، وهوذا المسيح يطرد اليهود من الهيكل ليؤكد أنَّ بيتَ الله مكانٌ للصلاة والقداسةِ ولحضور الرب وليس مكانًا للتجارة والنجاسة.[3]
على أي حال، من المثير للاهتمام أن إنجيل يُوحَنّا يضع حادثة تطهير الهيكل بعد عُرس قانا الجليل مباشرةً لاستكمال فكرة النظام العالمي الجديدِ الذي يجلبه المسيحُ. فهل سينتهي عصرُ الهيكل؟ يخبرنا يُوحَنّا أن يسوعَ يُشيرُ إلى نفسه بوصفه الهيكل (يُوحَنّا 2: 21). وهذا التعبيرُ يُصبحُ مهماً ليس فقط في ضوء السياق الذي يُقدّم حقائقَ جديدةً تتمحور حولَ يسوع المسيح، ولكن أيضاً في ضوء التقليد الذي يربط تطهير الهيكل بالدخول إلى أورشليم. فبخلاف الأناجيل الإزائية التي تضع تطهير الهيكل في نهاية خدمة يسوع يضعه يُوحَنّا بين عُرس قانا الجليل والاجتماع مع نيقوديموس ليلقي الضوء على النظام العالمي الجديد الذي يحلُّ فيه يسوع مكان الهيكل. هذا الإعلان اليُوحَنّاوي مهمٌ لاسيما في سياقٍ يؤكد فيه المسلمون أهمية المكان المقدس ويسعى فيه اليهود إلى إعادة بناء الهيكل ويحاول فيه بعض المسيحيين ترويج فكرٍ يسعى إلى إعادة بناء الهيكل حتى لو تم الأمر على حساب الدم الفلسطيني واليهودي وحتى لو نُحرت العدالة وحقوق الإنسان على مذابح الأيديولوجيات الصهيونية والتفاسير الغَلَط للكتاب المقدس!
في ضوء هذه الخلفية التاريخية الموجزة بات بمقدورنا أن نفهمَ السياقَ الأدبي بصورة أوضح وأن نَدرُسَ تميّزَ يُوحَنّا في طرحهِ المتعلق بالمكان المقدّس. والسياقُ الأدبيُ الذي يبدأ بالآية الأولى (يُوحَنّا 2: 11) وينتهي بالثانية (يوحنّا 4: 54) يترابطُ بذكرِ عُرسِ قانا الجليل في بدايته (يُوحَنّا 2: 1 – 11) ونهايته إِذ يقول: "فجاءَ يسوعُ أيضا إلى قانا الجليلِ، حيثُ صنعَ الماءَ خمرا" (يوحنّا 4: 46). ويذكرُ أيضًا ما فعله يسوع في العيد في أورشليم (يُوحَنّا 4: 45). ونجدُ في الوحدة الأدبية مقارنةً بين اليهودِ والأمم. فلقد اشترط اليهودُ أن يروا آيةً ليؤمنوا (يُوحَنّا 2: 18) وكان إيمانهم ناقصًا (يوحنّا 2: 23 – 25). ويشددُ المسيح في نهاية الوحدة الأدبية على رفضه لهذا التوجه إذ يقول: "لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب" (يوحنّا 4: 48). ثم يُعلمنا النص أن خادم الملك آمن هو وبيته بكلام يسوع. تفوّق خادم الملك الأممي على سكان أورشليم اليهود إذ آمن بيسوع وفهم قدرة المسيح على منح الحياة. وتتوسع الوحدة الأدبية بالمقارنة عندما تضع نيقوديموس اليهودي والسامرية معا في قلب هذه الوحدة الأدبية. وهكذا يحثنا النص أن نقارن بينهما.
نيقوديموس - السامرية
رجل - امرأة
يهودي - سامرية
رئيس لليهود - امرأة ليس لها زوج
رأى آيات - لم ترى آيات
جاء ليلا - جاءت في منتصف النهار
لم يقبل شهادة المسيح - شهدت عن المسيح
دعاه بالمعلم - أدركت أنّه المسيح مخلص العالم
ويشير عدّة علماء إلى أن الإصحاح الرابع يتحدث عن امرأة تعدّ مواطنة من الدرجة الثانية في القرن الأول على حين يتحدث الإصحاح الثالث عن رجل ذي مكانة وشرفٍ.[4] فيذكر هذا الإصحاح قائداً دينياً على حين يلقي الإصحاح الرابع الضوء على نقاش مع امرأة سامرية محتقرة. يأتي القائد ليلاً (وهو أمر سلبي في إنجيل يوحنّا) على حين تأتي المرأة نهاراً. ويُقبل القائد إلى المسيح بطريقة محدودة ومشوهة، إلا أن المرأة تستطيع أن تعترف ليس أن يسوع هو المسيح فقط ولكنه أيضاً مخلص العالم. وباختصار، من الواضح أن يوحنّا يحثنا أن نوازن بين هذين الشخصين. ولا تكون الموازنة تامة إذا تجاهلنا فكرة المكان المقدس، وهي فكرة مركزية في (يوحنّا 4: 20- 25). وفي الإصحاح الثالث يشير يسوع إلى نيقوديموس أن حضور روح الله ليس محصورا في مكان واحد (يوحنّا 3: 8). يقول السيد المسيح: "الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح" (يوحنّا 3: 8). إن كلمة "ريح" هي أيضا كلمة "روح" في اللغة اليونانية. لهذا من المحتمل أن القول هو: الروح تهب حيث تشاء. وبناء على ذلك ، فإن عمل روح الله يمكن أن يكون في كل مكان والذين ولدوا من الروح يمكن أن يكونوا في أي مكان.
وهذه الفكرة يمكن تقديرها استقراءياً وتوسيعها من خلال حديث يسوع إلى المرأة السامرية ، فلم يعد هيكل أورشليم ضرورياً لعبادة الآب. وفقدت اليهودية الفريسية الاحتكار بالنسبة إلى المكان الصحيح للعبادة ما دام المؤمنون الحقيقيون لا يتشددون حول مكان العبادة ولكن همهم مصروف إلى طبيعة العبادة. ولا يستطيع المتعبدون أن يرضوا الله أكثر مما يفعلون عندما يصلّون في جبل الهيكل، لأن العبادة الحقيقية تحددها طبيعة الله كما أظهرها يسوع المسيح وليست وقفاً على مكان العبادة. والحق أن يوحنّا أشار إلى هذه الحقيقة الإلهية في إنجيله إذ قال عن الكلمة أنه حلّ بيننا مستخدما لفظة "حلّ" المستخدمة عادة لخيمة الاجتماع (يوحنّا 1: 14). لقد أصبح يسوع خيمة الاجتماع مع الله. فهو الهيكل وهو بيت الله.[5] ومن عرفه فقد عرف الله ومن رآه فقد رأى الآب (يوحنّا 14: 5 – 10). ونجد في يوحنّا 1: 51، حيث ذُكّرنا بسُلم يعقوب وبيت الله، أن يسوع هو بيت الله الحقيقي حيث تصعد ملائكة الله وتنزل. يتحدى هذا الفكر تعاليم اليهودية والإسلام. ويتحدّى أيضاً الادّعاء أن جبل الهيكل (بوجود الهيكل أو عدم وجوده) هو المكان الذي فيه الله أو سيوجد فيه في المستقبل. وباختصار ، فإن إنسانية يسوع هي المكان حيث تلاقي الإنسانية وجه الله، وهي المساحة التي يتصالح فيها الله مع البشر. ولقد تصالحت الألوهة والإنسانية تماماً بيسوع المسيح الإنسان الكامل والإله الكامل. ولا تستطيع الإنسانية أن تُجري المصالحة التامة دون يسوع المسيح. إن بيت الله هو إنسانٌ ويمكن لكل إنسٍ أن يؤمن بيسوع المسيح. ويمكنه أيضا الوصول إلى الله من خلال المسيح الذي هو الهيكل. فلا مكان للكبرياء القائمة على العرق ولا للاستثناء أو الإقصاء. ولا حاجة للجدل حول أقدس الأماكن في العالم. هل مكة أقدس من روما؟ وهل أورشليم أقدس من القسطنطينية؟ فطبيعة الله هي التي تحدد عبادة الله في النظام العالمي الجديد الذي يروّجه يسوع المسيح. وعندما يرتبط المكان المقدس بشخص المسيح تتغير المفاهيم المرتبطة بالرزنامة المقدسة. فالصلة وثيقة بين الأعياد اليهودية وهيكل أورشليم مركز هذه الأعياد. ولهذا من المناسب أن ننتقل الآن إلى الحديث عن الوقت المقدّس في إنجيل يوحنّا.
[1] Motti Inbari, Jewish Fundamentalism and the Temple Mount: Who Will Build the Third Temple? (Albany: State Univeristy of New York Press, 2009).
[2] حنّا كتناشو، أرض المسيح: صرخة فلسطينية (بيت لحم: كلية بيت لحم للكتاب المقدس، 2016)، 29 – 30.
[3] N. T. Wright, Jesus and the Victory of God (Minneapolis: Fortress, 1996), 413-428.
[4] Mary Pazdan, “Nicodemus and the Samaritan Woman: Contrasting Models of Discipleship,” BTB 17 (1987): 145-148.
[5] Paul Hoskins, Jesus as the Fulfillment of the Temple in the Gospel of John (Milton: Keynes: Paternoster, 2007).