تعتبر الكنائس الانجيلية الحرة (او ما يسمى الكنائس الكتابية) انها الكنائس التي اعتمدت الكتاب المقدس بأكمله ككلمة الله، وانها تعظ بها وتنادي اتباعها للالتزام بها. كما تعتبر نفسها الكنيسة التي تسير على نهج الكنيسة الاولى في بساطة خدمتها وفي التزامها بكلمة الله. وللصراحة نوضح انها ليست وحيدة بادعاءها هذا فجميع الكنائس تعتبر نفسها خليفة الكنيسة الاولى والوريث الشرعي لها. لست بصدد الخوض في من هو الاقرب فعلا للكنيسة الاولى فتلك مهمة شبه مستحيلة.
غير اني ساخوض في بعض النواحي من كلام الانجيل التي اهملت في الكنائس الانجيلية الحرة وبهذا انتقصت تلك من حق الانجيل ككتاب الله النافع للتعليم.
لقد هدد التيار الليبرالي في المسيحية قبل حوالي القرن حقا كتابيا اساسيا هو عصمة الكتاب المقدس (1). من الضروري التوضيح ان القصد هو اللاهوت الليبرالي بما يختص بسلطة الكتاب المقدس ككتاب الله او اقوال بشر، وليس كل جوانب الفكر الليبرالي المستنير. فقد ادعى هؤلاء ان الكتاب المقدس ليس موحى به من الله بأكمله. كما قدموا تفسيرات رمزية حيث لم يحتملها نص. خفف هؤلاء ببراعة ما جاء في الوحى الكتابي لدرجة الغائهم لمفهوم خلاص المسيح. وقد ادى ذلك لرد فعل حازم وقاطع في الكنائس الانجيلية انعكس في الرجوع للأساسيات والاصول، وهو ما سمى بالاصولية. وقد اكتسبت الكلمة معنى وسياق سلبي للغاية في السنين الاخيرة، ولكنها جاءت في المسيحية لتقف كسد منيع وللذوذ عن الايمان القويم من هجمات فكر اللاهوت اللبيرالي الحر كما اسلفت وقلائل يسمون انفسهم اصوليين ويستبدلون ذلك بتسميات اخرى مثل محافظين او كتابيين مع ان عقيدتهم ونهجهم وفلسفتهم تحتوي عناصر اصولية قوية.
على الرغم من مرور عقود على بزوغ الاصولية الانجيلية وتغير التحديات غير ان بصماتها ما زالت ملموسة. . ان هذا التأثير واللجوء لاساسيات العقيدة هو الذي يحدد تركيز الكنائس الانجيلية الحرة ويحدها ويمنعها من التطرق لجوانب اخرى للحق الكتابي الكامل.
لقد اتى الكتاب المقدس ليس ليقدم العقيدة فحسب، ولكن ليقدم مبادئ للحياة لمن يؤمن به ايضا. وقد شددت الكنائس التي تبنت اللاهوت الليبرالي على العمل الاجتماعي في الوقت الذي خففت هي فيه العقيدة وتساهلت فيها. وقد اصبح التركيز في بعض الكنائس على "الانجيل الاجتماعي" مثار استهزاء عند الكنائس الانجيلية الحرة (2) لأنه تذكير بابتعاد تلك الكنائس عن التعليم الصحيح المنبثق عن كلمة الله الكاملة. وكلما ازداد التأثير الاصولي، كلما زاد الابتعاد عن اي شئ فيما عدا "التعليم الكتابي النقي". احس الاصوليون انهم حماة العقيدة وبدونهم سيضيع اساس الايمان في زمن الارتداد.
لكن هذا النهج ،ومن حيث لا يدري، افقد الكنائس التي احتوت على عناصر الاصولية بركة اختبار الحياة المسيحية بعمقها وكمالها.
فمثلا استاءوا من اضافة الاعمال كعنصر مساو للايمان في سبيل الخلاص (3)، ومن هنا امتنعوا عن الوعظ والتعليم عن حياة القداسة (الامانة، التعفف، الصدق) لكي يسدوا الطريق على من يظن ان الالتزام بحياة قداسة هو من مكونات الحصول على خلاص الرب. بهذا خلقوا فجوة في حياة مؤمني كنائسهم. كما استاءوا من انتقاد الليبراليين لكلمة الرب فتمسكوا بحرفية الكلمة وحرفية تفسيرها كرد فعل وبهذا اخطأوا في تفسير مقاطع لا تحتمل التفسير الحرفي. استاءوا من عدم اتزان كنائس اذ ركزت على العمل الاجتماعي فابتعدوا عن كل عمل كنسي لا يركز على الكرازة او التلمذة متناسين ان يسوع اجرى اعمال شفاء واطعام فقراء (4) استاءوا من لاهوت التحرر وتحويل يسوع لمناضل سياسي فرفضوا رسالة يسوع الاجتماعية التي اهتمت بالعدل (5). اصبح نهج كثير من الكنائس نهج رد فعل لمن اساءوا لحق الانجيل الكامل، ولكن لسخرية القدر ان ذات هذه الكنائس انتقصت من حق الكتاب الكامل.
لقد غاص الليبراليون في اسئلة الحياة بثقة وغالوا في تفسيراتهم العقيمة وابتعدوا اكثر عن حق الكلمة. لكن وبالمقابل تقوقع الانجيليون، وبتأثير الاصولية، في ذات اسئلة العقيدة الاساسية، وبهذا خسروا بركات الحياة بملؤها واهملوا منظومة حياة الايمان الكاملة (6)
انه زمن لمراجعة النهج الانجيلي الحالي ولوضع الاصولية في نصابها الصحيح المحدود. ان انفلات الاصولية بسبب الخوف من فقدان العقيدة سيأكل حتما الأخضر واليابس وسيمنع الكنيسة من اتمام دورها الازلي.
1.https://www.britannica.com/topic/Christian-fundamentalism 2. Kenneth J. Heineman, God is a Conservative: Religion, Politics, and Morality in Contemporary America, page 21 3.بعكس آيات واضحة مثل افسس 1: 8 4. مثلا اعمال 10: 38 5. مثلا لوقا 4: 18 والمقطع الشهير المقتبس من سفر اشعياء 61 وايضا ميخا 6 :8 وغيرها آيات عديدة. 6.يوحنا 10:10 هو مثال واحد فقط لشمولية حياة الانجيل.