"انا مسيحي"، "انا مسلم"، " انا موارنة"، "انا شيعي"، "انا شيوعي"، "انا رأسمالي"، "انا وطني"...
عبارات نسمعها بشكلها الحرفي او بشكل مبطن كثيرا مؤخرا. واحيانا يرافقها تهجم او تكفير او تهميش وبالذات على شبكات التواصل الاجتماعي التي سهلت الانزواء وراء "الكيبورد" والنيل من المختلف. وتثير العبارات حفيظة من لا ينتمي لفئة المتكلم. ولهذا الهجوم وما يتبعه من هجوم مضاد وسجال الكتروني يتطاير فيه غبار ساحة المعركة الطاحنة حتى يشق عباب السماء، نتائج سلبية. انه يسبب التنافر والضغينة والبعد والقطيعة بين ابناء الشعب الواحد.
وليس في العبارات المجردة بحد ذاتها اية اساءة للغير، فهي تعبير عن الهوية والانتماء الشخصيين ولكن ما يرافقها من تهجم على الغير مرفوض بكل الاحوال. ولكن وكرد فعل للتقطب الحاصل بين ابناء الشعب الواحد بسبب التعبير عن الهوية الشخصية، اتخذ البعض موقفا مناقضا. فاصبح هؤلاء ينادون باللادينية او الحياد السياسي مثلا لتفادي الشرخ. البعض الآخر تبنى موقف عدم الاكتراث او التجرد مما يجعلنا مختلفين. ان غاية هذه المواقف او القناعات المضادة هي انصهار كافة الافراد في بوتقة الوحدة المزعومة. يظن هؤلاء انه بهذا ستزول الفوارق وستتبدد المميزات وسنعيش تحت سماء الألفة والانسجام.
الطريق الافضل ليس هذه الطريق ولا تلك. فالله خلقنا مميزين وخاصين- مختلفين بقومياتنا وجنسياتنا ولغاتنا وطباعنا وهذا التنوع يضفي جمالا ورونقا على حياة الناس. فالصين رتيبة لأن سكانها المليارد وربع صيني متشابهون مظهرا (في نظرنا على الاقل) وفي شكل بيوتهم واسلوب الحياة المفروض عليهم بسبب النظام الشيوعي المركزي. اما بلادنا فهي مشوقة نظرا للتنوع: اليهودي العلماني والمتدين (باطيافهم) والعرب بطوائفهم في قراهم ومدنهم وممن يسكنون في المدن المختلطة والبدو وغيرهم. كما يتنوع اسلوب البناء والعمل في ارجاء البلاد-من قرى الجليل في الجبال الشاهقة، الكيبوتسات، المدن اليهودية في الساحل والقدس وايلات وبلدات النقب-كلها تشير للتنوع اللافت.
ان التشديد على الهوية الشخصية لا يعني بالضرورة نبذ الغير وتحقيره فهو خليقة الله مثلك ومواقفه تنبع في كثير من الاحيان من موقعه وظروفه وهويته. ورغم القناعات القوية الرائجة في بلادنا لكن يتوجب ان تتصدرها القناعة بالتعددية والحرية الشخصية حتى لو كانت قناعتي دينية غير مساومة. لا يخجلني مثلا ان اكون مسيحيا مؤمنا وصاحب عقيدة راسخة غير مساومة وارى الدنيا من منظارها. ولكن هذا لا يعني فرض رأيي او استخدام الاكراه بالعنف الجسدي او الكلامي لكي يقبل الآخر ويتبني ما اؤمن به. المبدأ هو التمسك الصلب بالقناعة مقابل الليونة والتساهل في التعامل. ويكمن الاشكال في كثير من الاحيان ان اصحاب قناعات دينية او ايديولوجية شمولية يعزون تعاملهم المتصلب مع المختلف بما املته عليهم عقيدتهم. فالعقيدة تدعي الحق المطلق الذي يتوجب ان العالم برمته يقبله ويؤمن به ويخضع له. وسيفعل اتباع العقيدة ما بوسعهم لكي يوصلوا "النور" لمن غاب عنهم او ليفرضوا تعاليم ذلك "النور" على كل بقعة وانسان "ضال" على هذه البسيطة. ولكنهم ينسون انه يحق لاخي الانسان ان يتبنى "الضلال" نهجا وعقيدة ودينا ومن حقي محاولة رده عن "ضلاله" ، شرط ان يكون بالحسنى ودون اكراه. ان اكراهه على قبول موقفي وقناعتي هو سلبه لانسانيته التي تتجلى بحريته الشخصية، فالانسان دون حرية هو حيوان ناطق. باكراهه-انت تعارض قصد الله نفسه الذي تدعي انك تعبده، اذ لا يرغب الله ان يعبده بشر بعد غصبهم على ذلك. فلقد خلق هو بشرا وليس ماكنات او رجال آليين مبرمجين لاتباعه. في نهاية الامر، حقي هو ضلال اخي الانسان وضلالي هو حقه، ولن نتيقن ايهما صائب من بيننا (وقد يقول ثالث ان كلينا مخطئ او ان كلينا صائب) الا بعد الممات (وبحسب بعض التيارات- لن نعرف حتى عندها).
اما اذا رفضت عقيدتك كون الحرية الشخصية مبدأ اساسيا للحياة -فحري بك فحصها واعادة تقييمها. ان الاله الذي ينادي بالاكراه او القتل في سبيل اعلاء "النور" ودحر " الظلام" هو اله بغيض اصلا لا يستحق الاكرام. والايديولوجية التي ترغب بالقهر والفرض تستحق الرفض هي بنفسها. هذه الديانات او الايديولوجيات لن تقود الا الى حرب ابدية يقتل فيها افراد شعوبنا واحزابنا ودياناتنا بعضهم البعض بالتناوب الى ما قدر الله.