يحتفل العالم المسيحي هذا العام بمرور 500 عاما على الإصلاح البروتستانتي او الإصلاح الإنحيلي. وتعود بداية هذا الإصلاح ان الحالة الروحية في أوروبا في القرون الوسطى كانت صعبة للغاية، وقد بدأت تُسمع أصوات تدعو إلى التغيير والإصلاح في الكنيسة الكاثوليكية، ما نجم عنه تأسيس كنائس مسيحية جديدة في أماكن مختلفة بمعزل عن الكنيسة الكاثوليكية وسيطرة بابا روما. ويمكن أن نحدد بداية الإصلاح البروتستنتي في يوم 31 تشرين الأول 1517 عندما قام الراهب الألماني مارتن لوثر بتعليق قضاياه الخمس والتسعين على أبواب كاتدرائية وتنبرج في ألمانيا. وبعد لوثر، قامت حركات إصلاحية أخرى في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة ونتج عنها طوائف مسيحية جديدة مثل اللوثريين والأنجليكان والمشيخيين وفي مرحلة متأخرة اكثر المعمدانيين (وهي الكنيسة التي انتمي اليها).
لم يصل الإصلاح البروتستانتي بتنوعاته ومذاقاته المختلفة إلى الشرق الأدنى إلاّ في عام 1819. كان المرسلان البروتستانتيّان بليني فيسك وليفي بارسونس أوّل من وصلا الشرق الأدنى بدعم من American Board of Commissioners for Foreign Missions (ABCFM) or the American board)، وهي إرسالية مشيخيّة (Presbyterian). وصل فيسك وبارسونس إلى القدس أوّلا، ولكن قبل وصولهما إلى القدس، مرّا بجزيرة مالطة التي كان فيها المرسل جويت، وهو من الإرسالية الآنجليكانية البريطانية، يعكف على طباعة الكتب والمنشورات باللغة العربية منذ عام 1815. وفي عام 1826، كانت هنالك ثلاث محطات للتبشير لهذه الإرسالية في كلٍّ من القدس وبيروت ومالطا. وانصبّ عملهم الرئيسي على جبال لبنان، وأصبحوا يسمّون بالإنجيليين.
لم يكن هدف هذه الإرساليّات في البداية تأسيس طوائف جديدة، بل حث المسيحيين من الكنائس الشرقية على قبول الولادة الجديدة والعمل معًا للوصول إلى المسلمين واليهود ببشارة الإنجيل.
كانت هذه الإرساليّات الإنجيلية سبب نهضة روحية وثقافية في لبنان في القرن التاسع عشر، لكن بداية عملها لم تخلُ من مواجهة الاضطهاد من الكنائس القائمة. ففي عام 1825، آمن شاب لبناني مثقف هو أسعد الشدياق بالمسيح بحسب العقيدة الإنجيلية بعد أن كان كاتبًا لبطريرك الموارنة. حاول الشدياق إقناع بطريرك الموارنة بتبني التغييرات التي حدثت مع الكنائس في أوروبا على نمط زوينجلي ولوثر وكالفين، بحيث يكون الوعظ مسؤولية الكهنة الأساسيّة، ويكون الوعظ بلغة المصلين.
حاول البطريرك إقناع تلميذه بخطئه، مستخدمًا طرقًا عديدة منها محاولة إغرائه بمنصب أرفع، على سبيل المثال. لكن الشدياق لم يقتنع، فواصل الشدياق الشهادة للمسيح، ولم يأبه للرّسائل التي وصلت من البطريرك. وقام بعدها البطريرك بإبطال زواج الشدياق. كذلك قام عشرون شخصًا من أقرباء الشدياق بتسليمه إلى البطريرك ليزجّه في سجن حيث تم تجويعه والبصق عليه وتعذيبه، إلى أن مات شهيدًا في عام 1829. وكتب المعلّم بطرس البستاني في عام 1862 كتابًا بعنوان "خبريّة أسعد الشدياق".
لعل المعلم بطرس البستاني كان أشهر المثقفين الموارنة الذين تحولوا إلى البروتستانتية التي قامت وقتئذ بتأسيس مدارس أشهرها "مدرسة عبيّة" ومن ثَمّ "الكلية العربية السُّورية" التي غدت في وقت لاحق الجامعة الأمريكية في بيروت. وتبع آخرون المذهب الإنجيلي، وكان بعضهم من كبار رجال النهضة العربية من أمثال إبراهيم اليازجي، وناصيف اليازجي، وفارس الخوري.
بعد 500 عام من الإصلاح البروتستانتي وحوالي 200 عاما على وصول الإصلاح الى الشرق الادنى، نتسائل كيف كان التاريخ سيكتب لو نجح الشدياق بإقناع بطريرك الموارنة بتبني التغييرات التي حدثت مع الكنائس في أوروبا وبدأ الإصلاح من داخل الكنيسة المارونية لينتقل بعدها للكنائس الشرقية التاريخية الأخرى؟