الملايين من المؤمنين من كل الديانات في العالم تقول انها تحب لله. وهم يعلنون عن حبهم هذا بالالتزام المدقق بشرائع الاله الذي يؤمنون به. فان كنت تحب شخصا ما، فإنك ستفعل ما يرغب ان تعمله لترضيه وتلاقي استحسانا متزايداً عنده. اما في المسيحية، فلقد وهب الرب يسوع وصية اخرى اعتبرها ذات قيمة متساوية لوصية محبة الاله، اذ يورد الوحي المقدس:
وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجربه: «يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس؟» فقال له يسوع: «تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الاولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك.. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والانبياء». (متى 22: 35-40).
ويتساءل المرء كيف من الممكن مساواة محبة الانسان لأخيه الانسان المحدود الخاطئ والفاني بمحبة الانسان لله خالقه المنعم عليه بالخير ومخلصه وهو الابدي والازلي وغير المحدود؟!
لا بد ان الرب اعطى اهمية قصوى لمحبة القريب اذ وضعها في مقام مشابه لوصية محبة الله. السبب يعود لكون محبة القريب برهان ظاهر وعلني على صدق المحبة لله، فقد قال الكتاب المقدس صراحة:
"ان قال احد: «اني احب الله» وابغض اخاه، فهو كاذب. لان من لا يحب اخاه الذي أبصره، كيف يقدر ان يحب الله الذي لم يبصره؟ 21 ولنا هذه الوصية منه: ان من يحب الله يحب اخاه ايضا." (1 يوحنا 4: 20-21).
كما ان الانسان قد خلق على صورة الله ومثاله (تكوين 1 : 26 و27) فمن هنا لا يمكن ان تحب الله وانت لا تحب من على صورته ومثاله (طبعا القصد ليس بالمظهر الخارجي وانما بفطنته وابداعه وعمله وحرية الاختيار وغيرها) .
كما ان الرب اوضح في مثل "السامري الصالح" من هو ذلك "القريب" (انظر لوقا 10: 25 – 37) وذلك في جواب مباشر لمن سأله ان يعرّف من هو القريب ورأساً بعد التصريح بالوصيتين العظيمتين. بحسب المثل، "القريب" يشمل الد الاعداء- اليهودي للسامري وهما شعبان متخاصمان متخالفان ومتضادان في العقيدة ومنحى الحياة. كيف يمكن تطبيق ذلك على الصعيد الشخصي والعام في عصرنا هذا وبالذات في كنيسته في الاراضي المقدسة نظرا للكيفية التي يطلبها الرب وهي المحبة "كنفسك"؟
وقد يظهر للعيان ان الوصية لمحبة النفس غريبة ولكن هي ضرورية لكي تقدر ان تحب الآخرين كمحبتك لها. ان محبتنا لأنفسنا ليست محبة النرجسية التي يعبر عنها بالأنانية التي يكرها الرب. هي ليست المحبة للنفس القائلة "انا وليس غيري" اذ نتيجتها دينونة الله وحكمه ( انظر صفنيا 2 : 15 واشعياء 47: 8 ). من جهة اخرى لا يطلب منا الرب ان نكره ذواتنا وان نسعى لتدميرها. فلقد اعطى الرب توضيحاً لمعناها عندما قارب في علاقة المسيح مع الكنيسة مشبها ً اياها بعلاقة الرجل مع امرأته، فيقول: "فانه لم يبغض احد جسده قط، بل يقوته ويربيه، كما الرب ايضا للكنيسة" ( افسس 5 :29). انها محبة تطلب مصلحة نفسها كما مصلحة الآخرين. المحبة التي يطلبها منا الرب لأنفسنا هي تلك التي لا تقدم ذاتها على الآخرين، بل انها تعطي الآخرين مقاما وتقديرا وامتيازات تماماً كما تسعى لخير نفسها وبنيانها لكي تستطيع هذه النفس تتميم قصد الله لها. فمثلا قد تكون مصلحة النفس ان اهتم بحميّتي او امارس الرياضة او اترك الكسل واشتغل فيقوم الانسان بكبح جسده وتدريبه وضبطه في سبيل تلك المصلحة ولا يتركها على هواها كما قد توحي المحبة. أي اننا مطالبون احياناً بالتوبيخ والمواجهة وحتى العقاب للغير كتعبير للمحبة التي اوصانا الرب بها.
من هنا فان تطبيق هذه الوصية المركزية يعني الاهتمام بمصلحة الغير وتتميم قصد الله له- فلا نحسب نفسنا احسن منهم ولكن ننظر للجميع كأشخاص لهم قيمتهم في اعين الله كمن خلقوا على صورته ومثاله (انظر المقال الشامل للقس البروفيسور حنا كتناشو حول جماعة المحبة الفلسطينية والاسرائيلية من منظار تفسير انجيل يوحنا).
ان محبة الغير المطلوبة منا في سياقنا كمسيحيين في الاراضي المقدسة بحسب تفسير الوصية يعني اهتمامنا برفاهية كل شعوب البلد. انها تعني المسؤولية تجاه الغير وليس تركهم وشأنهم. انها تتطلب مساعدة الغير الا يؤذوا نفسهم بالإضافة للأذى المحتمل لغيرهم. انها تعني عدم تفضيل شعب او طائفة او اثنية او قومية او دين او لغة على الاخرى. انها تعني ليس فقط الوقوف مع المظلوم والمضطهد ولكنها تعني رد الظالم عن فعله فبظلمه هو يهمش صورة الله العادل فيه.
هل تترجم محبتنا للرب كمسيحيين الى هذا النوع من المحبة للقريب ام اننا نفصل بين محبتنا لله ومحبة القريب ونجد اعذارا لكي لا نبحث عن مصلحة القريب فنعتزل بعيداً عنه ؟