تحدَّث يُوحَنَّا في كتاب الآيات عن الرُّوحِ ( يُوحَنَّا 1: 32-33 / 3: 5-8/ 4: 23-24/ 6: 63/ 7: 37-39) كما يظهر في القائمة التَّالية.
1: 32 – 32 وشهد يُوحَنَّا قائلاً: إني قد رأيتُ الرُّوحَ نازلاً مثل حمامة من السَّماء فاستقر عليه . . . الَّذي ترى الرُّوح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الَّذي يُعمِّد بالرُّوح القُدُس
3: 5 – 8 إن كان أحدٌ لا يُولد من الماء والرُّوح لا يقدر أنْ يدخل ملكوت الله. المولودُ من الجسد جسدٌ هو، والمولودُ من الرُّوح هو روحٌ . . . الريح تهب حيث تشاء . . . هكذا كل من وُلد من الرُّوح
4: 23 – 24 ولكن تأتي ساعةٌ وهي الآن حين السَّاجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالرُّوح والحق . . . الله روح والَّذين يسجدون له فبالرُّوح والحق ينبغي أنْ يسجدوا
6: 63 الرُّوح هو الَّذي يحيي. أما الجسد فلا يُفيد شيئاً. الكلام الَّذي أكلمكم به هو روح وحياة
7: 37 – 39 إنْ عطش أحدٌ فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتابُ، تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الرُّوح الذي كان المؤمنون به مزمعين أنْ يقبلوه لأنَّ الرُّوحَ القُدُس لم يكن قد أُعطي بعد، لأنَّ يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد.
قد يختلف المفسرون في تحديد دلالة الكلمة "روح" في كل الآيات السَّابقة إلا أنَّنا عندما نفحص هذه المراجع اليُوحَنَّاوية نكتشفُ أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هو الطريقُ إِلى معرفة المسيح ابن الله. يقولُ الكتابُ المُقَدَّسُ بلسان يُوحَنَّا المعمدان: "وأنا لم أكن أعرفه، لكن الَّذي أَرسلني لأعمِّد بالماء. ذاك قال لي: الَّذي ترى الروحَ نازلاً ومُستقراً عليه، فهذا هو الَّذي يُعمِّد بالرُّوح القُدُسِ" (يُوحَنَّا 1: 33). والرُّوحُ هو الوالدة الَّتي تُعطينا طبيعةَ الملكوت فنـراه وندخله (يُوحَنَّا 3: 5 – 8). فالمولودُ من الجسدِ جسدٌ هو والمولودُ من الرُّوح هو روحٌ (يُوحَنَّا 3: 6). ولا يستطيع الجسدُ أَنْ يدخلَ ملكوت الله وأنْ يتواصلَ مع الله. فالله روحٌ وعبادتُه لا تكون إلا بالرُّوح إذ أنَّ طبيعةَ المعبود تحددُ طبيعةَ العبادة. فلا يُعبد الله إلا بواسطة الرُّوح (يُوحَنَّا 4: 23 – 24). الرُّوح وحده مدخلُ العبادة الحقيقية والحياة. وكما قال القديسُ سمعان اللاهوتي الجديد (949 – 1022 ب. م.): إنَّ الرُّوحَ مفتاحُ البيت (يُوحَنَّا 3: 3 – 5) والمسيحُ بابُه (يُوحَنَّا 10: 7 – 9) والآبُ هو البيتُ (يُوحَنَّا 14: 2). بكلمات أخرى، لا نحصلَ على الحياة إلا من الرُّوحِ (يُوحَنَّا 6: 63). فالرُّوحُ يُفسِّرُ كلامَ المسيح ليُنتِج فينا الحياةَ. والرُّوحُ هو علامةُ العصر الدَّاودي. ويقول الكتابُ المُقَدَّسُ: "وفي اليوم الأخيـر العظيم من العيد" (يُوحَنَّا 7: 37). العيد هو عيدُ المظال (يُوحَنَّا 7: 2). ويكون العيدُ عادةً في شهر أيلول أو تشرين الأوَّل. وفي اليوم السَّابع من العيد يقود رئيسُ الكهنة مسيرةً من بركة سلوام إلى الهيكل. ويحمل العابدون إناءً ذهبياً مملوءاً بالماء. ويسمع الشَّعبُ الأبواقَ ويشاهد الحجاجُ مسيرةَ الماء إذ يذهب الكهنةُ إلى المذبح مع الماء. وعندما ينشدون المزمور 118 يصرخ الجميعُ ثلاث مرات قائلين: اشكروا الرب. ثُمَّ يُسكب الماءُ والنَّبيذُ في أوعيةٍ فضيةٍ، ثُمَّ يسكبوها أمامَ الرَّب. لقد فَهِمَ اليهودُ من هذه الطقوس أنَّ اللهَ يُزود الماءَ وسوف يَسكب الرُّوحَ في نهاية الزَّمان.
إضافةً إلى المراجع الخمسة أعلاه، يُقَدِّمُ يُوحَنَّا خمسةَ مقاطع رئيسية عن الرُّوح القُدُسِ في أحاديث الرَّحيل (يُوحَنَّا 14: 15 – 21 / 14: 25 – 26 / 15: 26 – 27 / 16: 5 – 11 / 16: 12 – 16). ويقولُ السَّيِّدُ المسيح: "وأنا سأطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق" (يُوحَنَّا 14: 15 – 16). كان المسيحُ هو المعزي الأوَّل للتلاميذ. فعلّمهم وأَحَبَهُمْ ودافعَ عنهم وأَرشَدَهُم إلى الحقِّ. ولكنَّه سيُغادر بموته وصعوده إلى السَّماء. وهو الأبُ للتَّلاميذ (يُوحَنَّا 13: 33). فعند موته سيصبحون يتامى بدون مرشدٍ وقائدٍ ومحامي ومعزٍ. والكلمةُ معزي (باراكليتوس) تعنـي الشَّخص الَّذي يُساعد المتهمَ في المحكمةِ. وفي 1 يُوحَنَّا 2: 1 تُرجمت الكلمةُ بشفيعٍ إذ يقولُ النَّصُ: "يا أولادي أكتبُ إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحدٌ فلنا شفيعٌ عند الآب يسوع المسيح البار". وتشرحُ مقاطعُ الرُّوح القُدُس في كتاب السَّاعة علاقةَ الرُّوح مع الثَّالوث، ومع التَّلاميذ، ومع العالم. أولاً، لنفحص علاقة الرُّوح القُدُسِ مع الثَّالوث. وبالرغم من صعوبة الموضوع إلا أنَّ شرحَه بالغُ الأهمية. فنحن كمسيحيين نؤمنُ بإلهٍ واحدٍ في ثلاثة أقانيم. نُقرُّ أنَّ الله واحدٌ دون التنازل عن الثَّالوث الأقدس، الآب والابن والرُّوح القُدس. ويُدعى الأقنومُ الثَّالث بالمعزي، وبروح الحقِّ، وبالرُّوح القُدُس. وهكذا يتشابه الأقنومُ الثَّالثُ مع المسيح الَّذي هو الأقنوم الثاني. فالمسيح هو أيضاً معزي (يُوحَنَّا 14: 16) وهو الحقُّ (يُوحَنَّا (14: 6) وهو القُدوس الَّذي قدَّسه الآبُ (يُوحَنَّا 10: 36). والآبُ هو الإلهُ القُدوس (يُوحَنَّا 17: 11)، والإلهُ الحقُّ (يُوحَنَّا 17: 3، راجع الترجمات الكاثوليكية والحياة والمشتركة) وإله كل تعزية (2 كورنثوس 1: 3). وسيرسل الآبُ الرُّوحَ القُدُسَ (يُوحَنَّا 14: 26) وسيُرسله الابنُ أيضاً (يُوحَنَّا 15: 26؛ يُوحَنَّا 16: 7). ولكنَّ الرُّوح القُدس ينبثقُ من الآب (يُوحَنَّا 15: 26). والانبثاقُ هو علاقةٌ أزليةٌ بين الآب والرُّوح القُدُس قبل الخليقة أما الإرسال فيتمُّ داخل الخليقة. إضافة إلى ما سبق، يؤكِّد النَّص علاقة الأقنوم الثَّالث مع الأقنوم الثاني حين يقول: "هو يشهد لي" (يُوحَنَّا 15: 26) ويقول الابن عن الرُّوح القُدُس: "ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبـركم" (يُوحَنَّا 16: 14). وهكذا يقودُنا الأقنومُ الثَّالثُ للأقنوم الثَّاني الَّذي يقودنا للآب. والآب والابن والرُّوح القدس واحدٌ في الجوهر بالرغم من اختلافهم في الدَّور. ولا نستطيع أن نفصل جماعة الرُّوح عن الثالوث إذ أنَّ الرُّوح يُمجِّد الابنَ ويشهدُ له. وعندما يتمجَّد الابنُ يتمجَّد الآب أيضاً.
ثانياً، سنفحصُ الآنَ علاقة الرُّوحِ القُدُسِ مع العالمِ. يقولُ يُوحَنَّا أَنَّ العالمَ لا يستطيع أنْ يقبلَ الرُّوحَ القُدُسَ ولا يراه ولا يعرفه (يُوحَنَّا 14: 17). والعالمُ هو كلُّ إنسانٍ رَفَضَ المسيحَ وتعليمَه وعمله الفدائي. ويعملُ الرُّوحُ القُدُسُ كوكيل النِّيابة فيبكت العالمَ. يقولُ الكتابُ المُقَدَّسُ: "ومتى جاء ذاك يبكّت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين" (يُوحَنَّا 16: 8 – 11). الكلمةُ يبكّت تحتمل عدة معاني. فقد تعني يدحض أو يُخجِّل أو يُحقّر أو يتهم أو يمتحن أو يُثبت أو يفحص أو يفضح أو يُوبخ. ويصف النَّصُ ثلاثَ دوائر في العلاقة بين الرُّوح والعالم. وهي الخطية والبـر والدينونة. ويضع النَّص هذه الدوائر ثُمَّ يشرح سببَ التبكيت واضعاً كلمة "لأن". ومن الواضح أنَّ الرَّوحَ سيُقيِّم نظام العالم وأفكاره وعواطفه وسلوكياته وأخلاقياته وسياسته في ضوء ملكوت المسيح وتعاليمه. وستُظهر النتائج أنَّ العالمَ مذنبٌ قضائياً وأنَّ معاييرَ الله وقداسته أسمى من أفضل محاولاتنا البشرية. فالعالمُ مذنبٌ بخطاياه ومعايير بره وأحكامه. يخطئ العالمُ بكسر ناموس الله وبوضع بديل عن المعايير الإلهية. ويخطئ أيضاً بقضائه الشِّيطاني الَّذي يستخدم السُّلطة لتحقيق أهداف إبليس. وهذا ما حصل عند محاكمة يسوع المسيح إذ فشل القضاء وسُفك دمٌ بريءٌ.
ثالثاً، في ضوء البندين السَّابقين سنتوسع الآن في شرح علاقة الرُّوح مع التَّلاميذ، أي مع أهل الرُّوح. سيكون الرُّوحُ القُدُسُ هو معزي التَّلاميذ الَّذي يمكث معهم إلى الأبد (يُوحَنَّا 14: 16) ويُعلَّمهم كلَّ شيءٍ ويُذكِّرهم بكلِّ ما قاله المسيح (يُوحَنَّا 14: 26) ويرشدهم إلى جميع الحقِّ ويُخبرهم بأمورٍ آتية (يُوحَنَّا 16: 13). إنَّ حضورَ الرُّوح القُدُس مع التَّلاميذ وفيهم (يُوحَنَّا 14: 16 – 17) يُحوِّلهم إلى أهل الرُّوح وإلى هيكل الله ويُميـِّزهم عن باقي العالم بمعرفة الله. وليست المعرفةُ هنا معرفةً ذهنيةً فحسب بل هي أيضاً معرفةٌ اختباريةٌ تتمحورُ حولَ قبول الله ورؤيته بالإيمان بالمسيح. قال السَّيدُ المسيح لفيلبُّس: "أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبُّس! الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت: أرنا الآب؟" (يُوحَنَّا 14: 9). تقودنا معيّة المسيح إلى معرفة الابن والآب وتقودنا معيّة الروح إلى معرفة الرُّوح الذي يشهد للابن. وهكذا نعرف الله الواحد في ثلاثة أقانيم. هذه المعرفة تنـزع منا التيتم وتزوِّدنا بالبصيرة فنـرى أنَّ المسيحَ حيٌ ونحيا بسببه. إضافة إلى ما سبق، يُرشدنا الرُّوح إلى الحقِّ في عالمٍ عنيف ظالم. فهناك الاحتلال الرُّوماني والظُّلم السِّياسي. وهناك ضلال قيافا والانحراف الدِّيني. وماذا عن رياء الجماهير الَّتي تهتف في أحد الشعانين لتُرحِّب بالمسيح، ثُمَّ تهتف ثانيةً اصلبه اصلبه؟! وعالمُنا شبيهٌ بعالم التَّلاميذ إذ ينتشرُ الشَّرُ سواءً أكان على مستوى الفرد أم الجماعة أم الدَّولة. ولهذا نحتاج إلى صوت الحقِّ وإلى روح الحقِّ ليُرشدنا وسط هذا الظلام. وإرشاد الرُّوح مرتبطٌ بهوية المسيح وأعماله. فهو المُخلِّص الشّخصي والاجتماعي والكوني. يُخلِّص كلَّ من يقبله ويعتـرف بخطيئته. وكُلنا نوافق على الخلاص الشَّخصي. إلا أنَّ الخلاصَ الشَّخصي ناقصٌ. فالمسيحُ هو أيضاً مُخلِّص المجتمع إذ جاء ليقاوم وينتصر على كلِّ أنواع الشَّر. لا يريد أنْ يُخلِّص أرواحَنا فحسب وأنْ يُنقلنا إلى السَّماء، بل يريد أن يأتي ملكوتُ الله على الأرضِ. فليس الإنسانُ الرُّوحي هو الَّذي ينأى عن عالم المادة بل هو من يتقدَّس روحاً ونفساً وجسداً للرب ويصير رسولاً لملكوت الله الآن وهنا. ويريد اللهُ أنْ يخلقَ مجتمعَ العدالة والسَّلام والمحبة من الروحانيين. يريد أنْ يستنسخَ ثقافةَ المحبة في التَّلاميذ وفي جماعة الرُّوح.
في ضوء ما سبق، تحتاجُ جماعةُ الرُّوح الفلسطينية في إسرائيل أنْ لا تكتفي بتقديم الخلاص الشَّخصي بل أنْ تسعى أن تتنبأ بخلاص المجتمع الفلسطيني والإسرائيلي بالمسيح. فهو صانعُ السَّلام القادرُ أنْ يُقدِّم الغفران ويقودنا إلى المصالحة مع الله ومع القريب. وهو ربُّ العدالة الَّذي يُنصف المظلوم. وجماعةُ الرُّوح يجب أنْ تتشبه بالمسيح لتصبح المجتمعَ البديلَ لمجتمعنا المتدهور. ويجب أنْ يلتحم أتباعُ المسيح العرب واليهود وكل إثنية أخرى في جسدٍ واحدٍ ليُجسّدوا مجتمع الروح في فلسطين واسرائيل. ولن يتمَّ هذا الأمر بدون إعادة مركزية المسيح والعزم على الخضوع الكامل لروح الحقِّ والقداسة. فبدون حقِّ وعدلٍ وقداسةٍ ومحبةٍ لن ننجح. وعندما نسترشد الرُّوحَ ونطيعه فإننا سنمجِّد المسيحَ. والسؤال هو أي مسيح نمجِّد؟ أهو المسيح العرقي المتحيـز؟ أهو المسيح الفلسطيني أم اليهودي؟ أهو المسيح الطائفي أم الشّمولي؟ إنَّه المسيح الشُّمولي، إله فلسطين وإسرائيل. إنَّه المخلص الشَّخصي ومخلص المجتمع بأكمله. فبدون رؤية شمولية لكل سكان البلاد وبدون رؤية العيش المشترك لن نُقدِّم مسيحاً عادلاً لبلاد مزقتها العنصريةُ والأنانيةُ السَّياسيةُ والإيدولوجيات الصهيونيةُ وتطرف المتأسلمين. والآن سنفحص هويتنا كالجماعة المضطهدة.
[1] Constantine Scouteris, “The People of God-Its Unity and Its Glory,” Greek Orthodox Theological Review 30 (1985): 416.
[2] (مشنا سوكا 4: 9). راجع أيضاً الفصل الخامس صفحة 50 من هذا الكتاب.
[3] Carson, 322.