طَرَدَ يهودُ أورشليم يسوعَ وأرادوا أنْ يقتلوه لأنَّه شفا مريضاً مقعداً منذ ثمانٍ وثلاثين سنةً، وشفاه يومَ السَّبت (يُوحَنَّا 5: 16). وبعد نقاشٍ لاهوتي وجدلٍ صار "اليهودُ يطلبون أكثـر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السَّبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه" (يُوحَنَّا 5: 18). وهكذا فُقدت الحريةُ الدِّينية. فالتعبيرُ الدِّيني المُنفر ليهود أورشليم سيقودُ إلى العنف الكلامي والجسدي. ولَمْ يقدر يسوعُ أنْ يتـردد في اليهودية وأورشليمها لأنهم كانوا يطلبون أن يقتلوه (يُوحَنَّا 7: 1). ففُقدت حريةُ الحركة وحرية الذهاب إلى أورشليم للعبادة بدون إعاقات ظالمة. إضافة إلى ذلك، انتشرت الأقاويل الَّتي تشوّه سمعةَ المسيح. فقال بعضُهم أنَّه صالحٌ أما البعضُ الآخر فعارضه قائلاً: هو مُضلٌ، يضلُّ الشَّعب (يُوحَنَّا 7: 12). وتمادى آخرون فوصفوه بالشِّيطان ونفوا أنَّهم يريدون قتله. قالوا له: "بك شيطان. من يطلب أنْ يقتلك؟" (يُوحَنَّا 7: 20). وعندما كان في أورشليم، طلبوا أنْ يمسكوه (يُوحَنَّا 7: 30؛ 44). وبعد نقاشٍ حادٍ حول إبراهيم رفعوا حجارة ليرجموه (يُوحَنَّا 8: 59). وفي عيد التَّجديد حاولوا أيضا أن يرجموه (يُوحَنَّا 10: 31) وطلبوا أيضاً أن يمسكوه (يُوحَنَّا 10: 39). وبعد أنْ أقام لعازر من بين الأموات لَمْ يعد بإمكانهم التَّحمَّل والانتظار. فمن ذلك اليوم تشاوروا وقرَّروا أنْ يقتلوه (يُوحَنَّا 11: 53). ولم يعد يسوع يمشي علانيةً بين اليهود إذ صدرت الأوامرُ بالقبض عليه (يُوحَنَّا 11: 57). إنْ تركوه ستسبب تعاليمُهُ تغييـراً دينياً وسياسياً. وهم يُفضِّلون إبقاء الأمور كما هي. ولهذا سلكوا درب الاضطهاد.
لم يكتف رجالُ الدِّين والسِّياسة باضطهاد يسوع بل اضطهدوا أيضاً أتباعه. فطردوا المولودَ أعمى الَّذي شفاه يسوعُ من المجمع (يُوحَنَّا 9: 35). وتعاهدوا أَنَّه إنْ اعتـرف أحدٌ بالمسيح سيخرجونه من المجمع (يُوحَنَّا 9: 22). وتشاور رؤساءُ الكهنةِ ليقتلوا لعازر أيضاً إذ أقامه المسيحُ من بين الأموات وصارَ النَّاسُ يؤمنون بيسوع بسببه (يُوحَنَّا 12: 10 – 11). وقال يسوعُ لتلاميذه: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنَّه قد أبغضني قبلكم" (يُوحَنَّا 15: 18). فكما اضطهد رجالُ الدِّين والسِّياسة يسوعَ سيضطهدون أتباعه (يُوحَنَّا 15: 20). وهكذا يؤكِّد السَّيدُ المسيح أنَّه النموذج الَّذي يجب أنْ نتأملَ به وسط الاضطهاد. ويضيفُ قائلاً: "قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثـروا، سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعةٌ يظن كل من يقتلكم أنَّه يقدِّم خدمةً لله" (يُوحَنَّا 16: 1). وسينوح التَّلاميذُ بينما يفرحُ العالمُ (يُوحَنَّا 16: 20). ويقولُ إنجيلُ يُوحَنَّا:
إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لإنكم لستم من العالم، بل أنا اختـرتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم. اذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم، وإن كانوا قد حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم. لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي، لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني. لو لم أكن قد جئت وكلمتهم، لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم. الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً. لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحدٌ غيـري، لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنَّهم أبغضوني بلا سبب.
في ضوء ما سبق، هناك بعض الملاحظات الَّتـي لا بُدَّ منها. يبدأ الاضطهادُ بالبغض. يُكرِّرُ المسيحُ الكلمةَ "يبغض" أو أحد مشتقاتها سبعَ مرات في الفقرة أعلاه. والبغضُ هو نقيضُ الحبِ سواءً أكان سراً أم علناً. ويتشكَّلُ البغضُ باقتران المشاعر والأفكار والإرداة ويُنْتِجُ سوءَ الكلام والأعمال. ويقولُ السَّيدُ المسيح لأقربائه الَّذين لم يؤمنوا به: "لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أنَّ أعماله شريرة" (يُوحَنَّا 7: 7). ويبغضنا العالمُ بسبب صلتنا بالسَّيدِ المسيح. يُهينُ الكثيـرُ من اليهود المسيحَ رافضين أنه المسيا الموعود ورافضين ولادته العذراوية وفدائه. ويرفضُ المسلمون أُلوهية مسيحنا وصلبه وقيامته. ويُشوّه الكثيـرون إصرار المسيح على المحبة الشُّمولية والعدالة للجميع. وعندما نعلّي مسيحَنا ينفرون ويحاربوننا. فخطيئة بلادنا هي البغضُ. وبسبب البغض انتشرت الحروباتُ والقتلُ والعنفُ والإجحافُ السِّياسي والاجتماعي. فنادى البعضُ بالدَّولة الإسلامية ونادى آخرون بالدَّولة اليهودية فانتشرت قوانينُ التقزيم والتهميش. وحرقَ البعضُ كنائسنا وبصقوا على صلباننا. فالعنفُ هو ثمرُ طريق البغض. ولقد سلك بعضُ اليهود طريقَ البغض بسبب المعاداة للسَّامية وسلك بعضُ المسلمين طريق البغض بسبب الحروب الصليبية. وكرهوا المسيحَ كما يعرضه يُوحَنَّا. وكرهوا أتباعه أيضاً. ومهما تكن الأسبابُ فالبغض من الشيطان والمحبةُ من الله. وعندما نبغضُ أيَّ إنسانٍ فإننا نسلك درب الشَّيطان. وبعض المسيحيين أيضاً سلكوا هذا الطريق.
لقد أَبغضَنا العالمُ بسبب انتمائنا للمسيح. وأبغضونا أيضاً بسبب عدم ولائنا لقيمهم. فالعالمُ يدعم البِـرَّ المزيفَ الَّذي يُنكر اللهَ الابن والصَّليب والقيامة. والعالمُ يحبُ خاصَّتَه الَّذين يؤكدون رذائل الأنانية والعنصرية والتَّطرف والعنف بدلاً من فضائل ملكوت الله. وعندما نحارب الاحتلالَ وخروقات حقوق الإنسان والظُّلم السِّياسي والعنف الدِّيني فنحن نتحدى العالم. وعندما نُشدِّدُ على الغفران والمحبة وصنع السَّلام والعيش المشترك والاحتفال بكل سكان هذه البلاد فنحن نتحدى العالم. وعندما نؤكِّدُ أنَّ الله يحبُ الفلسطيني واليهودي دون محاباةٍ ويريد أنْ يُخلِّصهما ويُخلِّص الشعبين ويُسكنهما معا في أرضٍ مشتركةٍ وعيشٍ مشترك ومساواةٍ كاملةٍ فعندئذ نحن نتحدى العالم الصهيوني والعالم المتأسلم وكل من يسعى إلى تهويد كل شيءٍ. وبسبب تحدينا سندفع الثَّمنَ كما دفعه ربُّ العدالة والسَّلام. فعندما تحدَّثَ المسيحُ عن البـرِ والعدالة قال لنا: "طوبى للمطرودين من أجل البـر، لأن لهم ملكوت السموات. طوبى لكم إذا عيّـروكم وطردوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء من قبلكم" (متـى 5: 10 – 12). يريدُ العالمَ أنْ يطرد صوتَ العدالة. وتتكرر كلمة الطرد ثلاث مرات.
أبغضوا المسيح بالرّغم من التَّأنُّس إذ جاء ونصب خيمته وسطنا. صار بشراً واختبـر التَّجسد الثَّقافي واللغوي ومدَّ الجسور ليتواصل مع الجميع. فكلَّمهم بأعظم الحكم وصاغ كنوزَ السَّماء بكلمات نفهمها ونشعر بها. وصنع الأعمالَ الحسنة الَّتي تجسّد محبته وتضحيته وإصراره على نشر العدل من منطق الحب المُضحي. ولكنَّهم أبغضوه وسيبغضوننا بالرّغم من أعمالنا الحسنة. وسيبغضوننا بدون سبب أو مع سبب. فكلما يبتعد الإنسانُ عن الله يبتعد عن أتباع الله. ثُم يتبنـى قيماً بعيدة عن المحبة ومتجذرة في الأنانية والبغض. فيحارب القيم الإيمانية المسيحية وكلَّ من يتبع السَّيّد المسيح.
وتجسّد البغضُ في قرارتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ في المجامع. قال السَّيدُ المسيح: "سيخرجونكم من المجامع" (يُوحَنَّا 16: 1). يسعى أصحابُ القرار إلى إِبعاد أتباع المسيح لأنَّهم لا يريدون من يتحداهم ومن يُذكِّرُهم بخطايا الفرد والمجتمع. وتقاوم المجامعُ المسيحَ وأتباعه بالكلام والأعمال وبسياسةٍ ظالمةٍ. ويتطور البغضُ من عدم محبةِ فردٍ إلى برنامجٍ ظالمٍ، ثُمَّ إلى عنفٍ يسلبُ الإنسانَ أثمنَ ما عنده. يقول السَّيّدُ المسيحُ: "تأتي ساعةٌ فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" (يُوحَنَّا 16: 1). لا شكَّ أنَّ قتلَ المسيحيين في الشَّرق الأوسط ظاهرةٌ منتشرةٌ في القرن الواحد والعشرين. فلقد قتلونا في العراق ومصر وسوريا وغزة ظانين أنَّهم يُقدمون خدمةً لله. وقتلنا تطرفُ المتأسلمين والمتهودين والصهاينة. قتلوا حقنا في العيش الكريم. وهكذا أَوجز المسيحُ كلامَه إذ قال: "في العالم سيكون لكم ضيق" (يُوحَنَّا 16: 33).
فكيف نعيش وسط هذا الضيق؟ كيف نعيش كجماعةٍ مضطهدةٍ؟ والاضطهادُ هو موقف فرديٌ أو اجتماعي أو سياسي يسبب المعاناة والأذى وخروقات حقوق الإنسان لمن نبغضهم. وقد يكون سببُ الاضطهاد سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً أو غيـر ذلك. ويتحدَّث المسيحُ عن الاضطهاد الدِّيني بالرّغم من أنَّ الحياة الدينية الَّتـي يصفها تتعامل مع القضايا الاجتماعية والسّياسية. ويخبرنا الكتابُ المُقَدَّسُ عن الاضطهاد في أكثـر من موقفٍ. عانى لوطٌ الاضطهادَ الاجتماعي بسبب عدم تبنيه قيم سدوم وعمورة (تكوين 19: 9). واعتدى أهلُ مدينته على بيته وعلى ضيوفه. ظهر الاضطهادُ السِّياسي والدِّيني لشعبٍ بأكمله حين اضطهد المصريون بني إسرائيل زمن موسى فسخّروهم لخدمة مصر واستعبدوهم بعنفٍ ومرروا حياتهم بعبوديةٍ واصدروا القوانين لقتل أطفالهم ولتعطيل أعمالهم (خروج 1: 8 – 22). واضُطهد إيليا لأنَّه لم يتبنى ديانة الأكثرية في بلده وعصره (1 ملوك 19: 9). وعانى دانيالُ من اضطهاد الدَّولة بسبب شريعة إلهه وطرحوه في جب الأسود (دانيال 6: 1 – 28). علَّم السَّيدُ المسيح أنَّنا سنواجه الاضطهادَ فأرشدنا إلى سُبل مواجهته. قال السَّيدُ المسيح:
ها أنا أرسلكم كغنمٍ في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام. ولكن احذروا من الناس، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس، وفي مجامعهم يجلدونكم. وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم وللأمم. فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنك تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم. وسيُسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ولده، ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلونهم، وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص. ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. (متى 10: 16 – 23)
يطلب منا السَّيدُ المسيح أنْ نتحلى بالحكمة. فنواجه الأخطارَ بذكاءٍ وفطنةٍ دون أن نتخلى عن البساطة الَّتـي في المسيح. نواجه الرذائلَ الجهنميةَ بحكمة الفضائلِ السَّماوية. ويجب أنْ نكون حكماء كالحيات الَّتـي تُدرك الخطرَ بسرعةٍ وتأخذُ القرارات السَّريعة في التَّعامل مع المخاطر. ويجب أنْ نكون بسطاء كالحمام أي بلا لومٍ وحكماء للخيـر وبسطاء للشر (رومية 16: 19 وفيلبـي 2: 15). ويرشدنا المسيحُ أن لا نقلق ونهتم بل نعتمد على الرُّوح القدس. إضافة إلى ما سبق، يحثُّنا المسيحُ على الهروب من الخطر القاتل والمميت حتـى لو تتطلب الأمر ترك مدينة والهرب إلى أخرى. ومن لا يستطيع الهرب فليصبر إلى المنتهـى. ويتمسك بالرجاء أنَّ المسيح غلب العالم وأننا نستطيع أن نختبـر سلام المسيح وسط شدائد العالم. قال السَّيدُ المسيح: "كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم" (يُوحَنَّا 16: 33). وربما من المناسب وضع بعض العبارات فيما يخص التطرف الداعشي للمتأسلمين. فكيف نتعامل مع هذا النوع من الاضطهاد؟ يتبع . . .