يحتفل العالم المسيحي هذا العام بمرور 500 عاما على الإصلاح البروتستانتي او الإصلاح الإنجيلي الذي اطلقه مارتن لوثر,
في الاحتفالات التي عقدت في31 تشرين الاول 2016 بهذه المناسبة في الكاتدرائية اللوثرية في لوند، شارك البابا فرنسيس في بادرة غير مسبوقة، واعرب البابا وكبار اساقفة الكنيسة اللوثرية في العالم عن الاسف العميق حيال عمليات القتل من جراء الانقسام بين المسيحيين قبل 500 عام: "اننا بحاجة الى ان ننظر بصدق ومحبة الى ماضينا والاعتراف بخطايانا ونطلب الصفح". واضاف: "بكل امتنان، نعترف بان الاصلاح ساهم في وضع الكتاب المقدس بشكل مركزي في حياة الكنيسة". ودعا الى "عدم الاستسلام للانقسامات والابتعاد الناجم عن انفصالنا. لدينا فرصة لاصلاح لحظة حرجة في تاريخنا، والتغلب على الخلافات وسوء الفهم الذي كثيرا ما منعنا من تفهم بعضنا البعض".
لقد سررت عند متابعة هذا الحفل التاريخي، الذي مثًل نقلة نوعية في العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية، ولكنني شعرت ايضا بالفخر، وذلك لأن المطران الفلسطيني منيب يونان هو الشخص الذي قام بتوقيع اتفاقية التعاون مع البابا فرنسيس، وذلك كونه الرئيس الدوري للإتحاد اللوثري العالمي.
لقد وصلت رياح المصالحة بين الكنائس المسيحية المختلفة الى فلسطين، حيث تسود علاقات محبة وتعاون وتزدهر الحركات المسكونية، ولكن الحال لم تكن مثالية عند قدوم الإصلاح الإنجيلي إلى الشرق الأدنى في بداية القرن التاسع عشر.
وصل هذا الإصلاح الى لبنان في عام 1819 (المزيد في مقالي السابق) وبعدها بفترة قليلة الى فلسطين، حيث وصل الأنجليكان واللوثريون عام 1820 وعام 1824 على التوالي. وقرّر الدكتور دالتون، وهو من إرسالية لندن لتبشير اليهود، بدء خدمة طبيّة في فلسطين، لكن خدمته واجهت صعوبات جمّة. ولم يتم السماح لأي بروتستانتي بالاستقرار في القدس إلا منذ عام 1833 عندما سُمِح للقس جون نيكولايسن، وهو دنمركي الأصل، بالسكنى في القدس.
وفي عام 1841، توصّل اللوثريون والأنجليكان إلى اتفاق حول تكوين مطرانية موحّدة في القدس قادها لفترة طويلة المطران السويسري صموئيل جوبات من عام 1846 حتى عام 1879. وتم تشييد المبنى الأول لكنيسة بروتستانتية في الشرق الأوسط في عام 1849 عندما أُسِّست كنيسة المسيح داخل باب الخليل في القدس القديمة.[1]
ولكي نحاول فهم الأجواء الروحية في فلسطين في تلك الفترة، نعود إلى تقرير كتبه الدكتور ساندركزي في عام 1854 بعد أن قضى ثلاث سنين يرعى فيها رعية الكنيسة الأنجليكانية في القدس وبيت لحم ويافا:
"درست بكل عناية ودقة، ولفترة ثلاث سنوات، أخلاق الناس الذين كنت أتعامل معهم لأتعرّف جميع الظروف التي أثّرت في تكوين أخلاقهم، والتي استمرت قرونًا عديدة مظلمة سادها الطغيان السياسي والديني. وأعترف بأنني كنت أكاد أقع في حالة من اليأس بعد أن اختبرت أخلاق الجيل الحاضر المتدهورة والفاسدة. ولكنني، ولمرات عدّة، كنت أشعر بعمق أنني مخطئ في حكمي على شعب استمر اضطهاده وإذلاله لقرون طويلة من قبل الحكام ومن قبل القادة الروحيين- وكلاهما أشبه بالذئاب الخاطفة. ولهذا السبب، اضطر الشعب إلى الالتجاء إلى وسائل معوجة وغير أخلاقية كالخنوع وقبول العبودية والكذب والرياء والاحتيال لمجرد التشبث بالحياة، ولو كانت كلها بؤسًا وشقاءً.. كلا! تعلمت أن أُقدِّر بحق وأعجب بالصفات الحميدة والرغبات الشريفة المتأصلة في أفراد هذا الشعب الذين يستيقظون بسهولة ليقاوموا الأوضاع التي تواجههم بمجرد إشراق أشعة الحق على الظلمة التي تحيطهم منذ ولادتهم... كان هناك ما يشجعنا في سنتنا الماضية بعد أن انفصل عنّا الذين انضموا إلى جماعتنا طمعًا في المال، وكانوا سبب بلبلة وتشويش."[2]
ما إنْ بدأ الأنجليكان (وكانوا يسمون بالبروتستانت) في عقد اجتماعات لدراسة الكتاب المقدس في الناصرة، حتى بدأت تُثار ضدهم المضايقات، وقرر عشرون رب منزل الانضمام إلى طائفة البروتستانت في العام 1851 بعد أن تم الاعتراف بها رسميًّا من قبل الإمبراطورية العثمانية عام 1850.
في عام 1852، قامت مجموعة من أعضاء كنيسة اللاّتين في الناصرة بقيادة الراهب فرا أنجلو بضرب عدد من البروتستانت وجرحهم، حيث هجموا على البيت الذي يسكنه المرسلون وكسروا الباب وقذفوه بالحجارة، فجرح المرسل شوارتز بجروح بالغة في رأسه، فمات متأثرا من تلك الجراح. ثم أخذوا نسخًا كثيرة من الكتاب المقدس وكتبًا دينية أخرى وأحرقوها في ساحة دير الفرنسيسكان أمام جمهور من الناس.
ولم يكن كل من انضم إلى الكنيسة الأنجليكانية قد اقتنع بالإيمان الإنجيلي، غير أن كثيرين انضموا إليها هربا من طغيان الإكليروس الأورثوذكسي واللاّتيني.
تفكّك الاتحاد بين اللوثريين والأنجليكان في العام 1886 – وواصل الأنجليكان بناء المدارس وتأسيس الكنائس، وهكذا كان عددهم يتزايد. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان للأنجليكان 31 مدرسة يدرس فيها 1800 طالب من كل أنحاء فلسطين.
قبل فض الشراكة مع الأنجليكان، قام اللوثريون ببناء بعض المشاريع الخاصة بهم. ففي العام 1851 تمّ افتتاح مدرسة "طاليثا قومي" في يافا. وفي عام 1860، قامت عائلة المرسل الألماني جوهان لودويج شنلر بتأسيس عمل للأيتام والتأهيل المهني في القدس، إضافةً إلى فرع له في الناصرة وفي بئر سالم.[3]
في عام 1860 وصلت الى فلسطين الارسالية المشيخية السكوتلندية وفي عام 1863 أُسِّست إرسالية طابيثا للبنات في يافا، وافتتحت مدرسة عادية وأخرى داخلية عام 1875. وفي عام 1885، بدأ العمل الطبِّي في طبريا. وفي عام 1894 أُسِّس المستشفى الأسكتلندي على ضفاف بحيرة طبريا (الفندق الأسكتلندي في طبريا حاليا). إضافةً إلى ذلك، أسّسوا مدرسة للبنات وأخرى للأولاد في طبريا، ومدارسَ في صفد أيضًا. وفي نفس الفترة تقريبًا، أسّست إرسالية أدنبرة الطبية مستشفى تابعًا لها في مدينة الناصرة.[4]
قام المعمدانيون، كغيرهم من الإصلاحيين، بإرسال مبشرين إلى فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر، وفي عام 1859 اعتمد شاب من نابلس اسمه حنا القرّة في بركة سلوام في القدس وقام في عام 1866 بتأسيس خدمة إنجيليّة غير طائفية انطلاقًا من مسقط رأسه في نابلس، وفي عام 1885، تبنت الإرسالية المعمدانية البريطانية هذه الخدمة، لتصبح الكنيسة المعمدانية في نابلس، وافتتحت ايضا مدرسة للبنات.
ساهمت الكنائس البروتستانتية المختلفة في وضع الكتاب المقدس في كل بيت مسيحي وساهمت ايضا في النهضة التعليمية في فلسطين من خلال المدارس المختلفة المفتوحة امام كل شرائح المجتمع، بالإضافة الى العديد من المستشفيات وبيوت الأيتام والمسنين وغيرها.
بالرغم من التغييرات الكبيرة التي طرأت على بلادنا في القرن العشرين والتي ساهمت في هبوط نسبة المسيحيين من 10% من سكان فلسطين التاريخية في عام 1921 الى اقل من 2% في عام 2016، وبالرغم من ان الكنائس البروتستانتية بمذاقاتها المختلفة تمثل أقلية صغيرة بين المسيحيين، الا ان هذه الكنائس ما زالت تساهم في نشر رسالة الانجيل من خلال تركيزها على الكتاب المقدس، ومن خلال تواصلها مع المجتمع وتقديم خدمات تربوية وصحيّة وإجتماعية.
[1] The Forgotten Faithful, Naim Ateek and others, Page 107-109
[2] رفيق فرح. تاريخ الكنيسة الأنجليكانية في مطرانية القدس 1841-1991. صفحه 193
[3] Naim Ateek and others, The forgotten Faithful, Page 107-109
[4] المرجع السابق، ص 110