هذا مقالي الرابع والأخير بعنوان "الاصلاح الإنجيلي بين الماضي والمستقبل"، وسأتطرق فيه للشخصية الرئيسية التي بدأت بدفع عجلة الاصلاح، ألا وهو مارتن لوثر. عادةً ما يرتبط التاريخ بتغيير في الأفكار، لكن بالطبع هناك أفراد وأشخاص يقفون وراء الأفكار التي تغيّر التاريخ. ولا شك أن مارتن لوثر يُعتبر واحد من هؤلاء الأشخاص الذين ارتبطت أسماءهم بتغيير إصلاحي ديني الذي كان له التأثير ليس فقط على الحياة الدينية، بل الاجتماعية، والسياسية، والثقافية ايضًا حتى يومنا هذا. اختلفت حول لوثر الآراء والاعتقادات، قال البعض انه راهب شرير صاحب تعاليم شيطانية. ورأى آخرون انه مسيحي أمين أراد أن يصلح الكنيسة من الفساد الذي دب فيها. واتهمه نفرٌ ليس بقليل بانه من يقف وراء انشقاق الكنيسة (خاصة في الغرب). ووصفه غيرهم بانه رجل الإصلاح الأول بلا منازع. اتهمه البعض بالهرطقة ونقض العهود، ولكن رآه البعض اقدس مسيحي حافظ على ولائه للسيد ولتعاليمه. فمن هو هذا الشخص ولماذا كل هذا الجدل حوله؟
ولد مارتن لوثر سنة 1483 في ألمانيا، وخلال دراسته المدرسية كان يحضّر نفسه لدراسة القانون بحسب رغبة والديه. لكنه مر بحادث سنة 1505 غيّر مجرى حياته. تفاصيل هذا الحادث غير واضحة، لكن ما نعرفه أنه أصيب بنوبة من الذُعر والخوف إثر عاصفة رعدية، قطع فيها عهدًا أنه إذا خرج سليمًا منها سيلتحق بسلك الكهنوت. وقد وفَى لوثر بعهده، وبعد بضعة أشهر التحق بكلية أوغسطين، وذلك بعكس رغبة أهله.
رُسم لوثر كاهنًا سنة 1507، وأُرسل بعد ذلك بسنة إلى جامعة ويتنبرج، التي كانت قد تأسست قبل ست سنوات ليعلم فلسفة أرسطو. كان لوثر يعلم في الجامعة وبالمقابل يُكمل دراساته العليا، وخلال خمس سنوات من الدراسة نال شهادة الدكتوراة في اللاهوت. وتخللت هذه الفترة زيارة الى روما، وقد تركت هذه الزيارة، بعكس ما توقع، أثرأ سلبيا في حياته، خاصة بعدما رأى الفساد الأخلاقي المستشري في الكنيسة ورجال الدين هناك، حتى أنه قال عن روما أنها المدينة العاهرة التي أساساتها في الجحيم. وقد زادت هذه الزيارة من التخبطات ونوبات القلق والاضطراب التي كان يواجهها عندما يفكر بما يتعلق بمصيره الأبدي، والتي أزعجته كثيرًا. وفي سنة 1515 وبعد صراعه مع رسالة رومية وخاصةً 17:1، تغيرت حياته، حيث يلخص بنفسه ما جرى معه بما يملي:
وأخير أشفق الله علي وعندئذ بدأت افهم ان عبارة "بر الله" تعني ان الإنسان المؤمن يحيا بالبر الذي يمنحه له الله... على ان هذا البر الذي يبررنا به الله هو رحمة منه ننالها عن طريق الإيمان. كما هو مكتوب وأما البار فبالإيمان يحيا. وحالا شعرت بأنني أولد من جديد وان أبواب السماء قد فُتحت على مصراعيها أمامي ومن هذه اللحظة بدأ الكتاب كله يظهر امام عيني بمظهر آخر وبقدر ما كنت اكره عبارة بر الله، صرت أحبها... وهكذا أصبح هذا النص بالنسبة لي باب السماء...
وفي يوم عيد القديسين سنة 1517، قام لوثر بعمله المشهور حيث علّق اعتراضاته الـ 95 على باب الكنيسة في ويتنبرج. ما علقه لوثر كان اعتراضاته على ممارسات الكنيسة خاصة في موضوع الزواج غير الشرعي للكهنة، وبيع المناصب الكهنوتية، وصكوك الغفران، وأخذ الضرائب من الناس، وتدخل الكنيسة في الأمور السياسية. في تلك الفترة كانت هذه الطريقة من الاعتراضات مقبولة، وباب الكنيسة كان مكانًا تعلّق عليه الإعلانات، وما قام به لوثر كان جزءًا من العادات الأكاديمية في ذلك الوقت، وكأنه كان يقول، هذه هي آرائي وأنا مستعد لبحثها ومناقشتها.
محكمة ورمز
لم يكن هدف لوثر كما سبق وذكرنا الانفصال علن الكنيسة، بل وضع انتقاداته آملا أن تقود بصورة ما الى أجراء اصلاحات في الكنيسة ونبذ كل ما يحدث من فساد وشر، واسترجاعها لقداستها وطهارتها. لكن على ما يبدو أن البابا لم يرَ الامور بهذه الصورة فقام سنة 1520 باصدار قرار حرمان ضد لوثر. وما ان استلم لوثر كتاب الحرمان قام هو وزملائه بحرقه وحرق الدستور الكنسي. فكان هذا مثابة إعلان رسمي من لوثر عن استقلاله عن الكنيسة الكاثوليكية.
وفي شهر آذار سنة 1521، دعى الإمبراطور شارل إلى محكمة في ورمز لبحث التهديدات الناتجة عن لوثر وأتباعه. وقد كان كل المطلوب من لوثر الاجابة عن سؤالين، هل هو مؤلف الكتب التي نُشرت باسمه؟ وإن كان جوابه بالايجاب، فهل يؤيد ما جاء فيها أم هو على استعداد للتراجع عن ما كتب؟ بكلمات أخرى طُلب من لوثر أن يعيد النظر في تعاليمه ويتراجع عنها. طلب لوثر مهلة قصيرة لمدة يوم وبالنهاية كان جوابه لهم كالآتي:
أيها السادة النبلاء، أنتم تطلبون مني جوابًا واضحًا صريحًا عما إذا كنت مستعدًا أن أعدل عن أقوالي بعدم عصمة البابا والمجامع المقدسة، وها هو جوابي البسيط. إنني لا اؤمن بهذه العصمة... وما لم يقنعني أحد بالاقناع العقلي والكتابي أن ما أقوله خطأ، فلن استطيع أن أغير ما قلت، ذلك لأني مقيد بكلمات الكتاب المقدس... نعم ان كلمة الله قد استأثرت ضميري، لذلك لا استطيع، ولا أريد أن اعدل عن شيء من أقوالي، لانه ليس من الصواب ولا من الأمان ان يسلك الانسان ضد ضميره. وها هنا أقف، ولا استطيع أن أفعل غير ذلك، والله معي.
حروب
أعطت الاوضاع السياسية في أوروربا للوثر المجال والوقت للاستمرار بنشر تعليمه. فمن اللحظة التي رجع فيها الإمبراطور من ورمز ولغاية سنة 1530، لم يهدأ له بال، فقد كانت جميع حدود إمبراطوريته مهددة. فمن الناحية الشرقية كانت حدوده مهددة من قبل الأتراك، ومن الناحية الغربية كانت فرنسا تحاول استرجاع أراضي من عائلة هابسبرغ بادعاء أن هذه الأراضي تابعة لها، أضف إلى ذلك مقاومة البابوية لحكم شارل في إيطاليا. كل هذه الظروف قلّلت من الضغط على سكسونية، على فريدريك ولوثر. وباختصار استمرت الحروب الداخلية والخارجية تلاحق الامبراطور حتى سنة 1529، وخلال هذه الفترة أُتيح المجال للوثر لنشر تعاليمه واعتراضاته على الكنيسة الكاثوليكية.
مجلس أوغسبرغ
كما رأينا لم يتسنى للإمبراطور أن يتابع قراره من مجمع ورمز بسبب التحديات السياسية في الامبراطورية، لذلك ما أن هدأت هذه الاحوال وقتيًا، قرر عقد مجمع لحل الازمة الدينية وذلك بالدعوة لمجلس الأمّة (الدايت) في مدينة أوغسبرغ، فيه يتاح لقادة كل فريق تقديم معتقداتهم الدينية والمحاولة للوصول لحل يرضي الطرفين. وعلى أثر هذا القرار قام الامبراطور بدعوة للقاء كهذا بتاريخ 8 نيسان 1530. لم يحضر لوثر هذا اللقاء المهم، وربما يكون ذلك لسببين، الأول متعلق بالحرمان البابوي الذي ألقي عليه، الذي ممكن أن يعرضه للخطر؛ والثاني يمكن أن يكون قد مُنع من قِبل زملائه من حضور هذا المجلس الذي يبحث قضيته، وذلك لحدة طبعه. وبسبب تغيب لوثر عن المجلس، أُرسل أحد تلاميذه الذي يُدعى فيليب ميلانكثون، الذي كان قد قدم اقتراحًا للمجلس يُدعى "إقرار أوغسبرغ"، قدم فيه بعض التنازلات وحلول الوسط، إلا أن هذا الاقتراح تم رفضه. وقد أمر الإمبرطور شارل كل البروتسنت بالرجوع إلى الكنيسة الكاثوليكية خلال سنة واحدة.
لكن هذا الطلب كان سخيفًا نوعًا ما، فحركة لوثر وتعاليمه كانت قد انتشرت خلال مدة أكثر من عشر سنوات، مُستغلة موضوع الطباعة والاستقلال السياسي النسبي التي كانت تحظى به ألمانيا، في الوقت الذي كانت فيه بقية بلدان أوروبا تغرق في فوضى الحرب. مدن كاملة كانت قد تحولت عن الكاثوليكية، وأغلب رجال الدين تزوجوا، وألغي نظام الرهبنة، وتحولت الأديرة لمؤسسات أخرى تستعملها الكنيسة.
توفي لوثر في سنة 1546، لكن حركته كانت قد تأسست جيّدًا. وأصبح الخلاف بين الكنيسة البروتستنتية والإمبراطور غير متعلق به شخصيًا. وتوّصل الفريقان المتنازعان لاحقًا إلى اتفاق يضمن الحرية الدينية وذلك ما يعرف بـ "سلام أوغسبرغ" سنة 1555. وبحسب هذا الاتفاق حصل البروتستنت على اعتراف في مناطق معينة. فالمنطقة التي يحكمها أمير بروتستنتي، تصبح منطقة بروتستنتية. وحيث الأمير كاثوليكي، تكون المنطقة كاثوليكية. وهذا الأمر لا ينطبق على ألمانيا فحسب، بل على كل الإمبراطورية. كنتيجة لهذا، حدثت حركة هجرة كبيرة من منطقة لأخرى، فالبروتستنت الذين كانوا يعيشون في منطقة كاثوليكية انتقلوا للعيش في منطقة بروتستنتية، والعكس بالعكس.
ماذا عن لوثر الغد؟
لم يكن لوثر كاملا بكل ما قاله أو علّمه أو عمله، فهناك مآخذ تأخذ عليه خاصة بما يتعلق بدعمه للحرب ضد الفلاحين، وموقفه من اليهود والمسلمين. لكن علينا أن نتعلم من هذا الانسان دروسًا مهمة إن كانت الكنيسة تسعى لتكون مؤثرة. ومن هذه الدروس: أولاً، على الكنيسة أن تكون الصوت النبوي في المجتمع التي تعيش به. لقد كان لوثر الصوت النبوي في زمانه، لقد اقترب من كلمة الله تصارع معها وفتح لها المجال لتغيّر حياته وتشكلها وبالتالي استطاع ان يقربها للناس، ويجعلها ذات صلة بمشاكلهم وتساؤلاتهم. لقد بسّط لهم كلمة الله، وفسّرها، وجعلها تلامس حياتهم وتتعامل معها. وهذا النوع من القادة الذين نحتاجهم، أشخاص لهم صوت نبوي مثلما كان للوثر يؤثروا في مجتمعهم من خلال كلمة الله. ثانياً، علينا أن ندرك أن شبابنا وشاباتنا هم قادة المستقبل وهم خدام وخادمات كنيسة الغد، فإن أردنا أن نرى كنيسة ناهضة، علينا أن نشجعهم على أخذ دروهم في الكنيسة، علينا أن نؤسسهم على كلمة الله والعيش بحسبها، ولا نخشى أن يتحدونا بايمانهم وبقناعاتهم وبغيرتهم للانجيل، وبأفكارهم التي ربما تختلف عنا، في طرق وأساليب توصيل الباشرة والتواصل مع المجتمع. وعلينا ان نتحاور معهم، نرشدهم ونشجعهم ليحققوا دعوة الله لحياتهم، لاننا ان لم نفعل هذا سنكون بذلك نغلق بايدينا كنائسنا. وأخيرًا علينا أن نتذكر أن الاصلاح هو عملية مستمرة فالكنيسة لم تصل الى درجة الكمال. والاصلاح يعني أن نعطي مجال لكلمة الله وروحه ليغيّرنا ويصلحنا كل يوم، كيما يضيء نورنا على نحو أفضل. ولنتذكر انه إن غاب الاصلاح عن كنائسنا غاب عنها المسيح.