ترجع جذور حركة الرّهبنة المسيحية الى القرن الرّابع، حيث بدأت أعداد متزايدة من العلمانيين بالانسحاب من العالم والاعتزال رغبةً في اتّباع، كما ظنّوا، الكمال المسيحي. فتركوا العالم متّجهين نحو البراري والقفار، ليعيشوا فيها حياة الزّهد والتّقشف، ويقضوا وقتهم في الصّلاة والتّأمّل. ومع نهاية القرن السّادس، نجد أن هذه الحركة كانت قد مدّت جذورها في الكنيسة الشّرقية والغربية على حد سواء. أما الأسباب التي أدّت الى نشوء الرّهبنة في تلك الفترة فيمكن تلخيصها بالآتي:
أولاً، تأثير الحركات مثل الغنوسية التي زعمت أن "الجسد شر والرّوح خير". ولذلك أصبح الانعزال عن العالم يساعد الفرد على صلب الجسد وتنمية الحياة الرّوحية عن طريق حياة الزّهد والتّأمل. ثانيًا، الهروب من مواجهة الحياة القاسية والفساد الأخلاقي في ذلك العصر. ثالثًا، دخول قبائل البربر للكنيسة، والتي جلبت معها ممارسات شبه وثنية، أدى هذا الأمر الى استياء أشخاص متحفظين في الكنيسة، مما دفع بعض المسيحيين للهروب من المجتمع والكنيسة آنذاك. وأخيرًا، تناقصت احتمالات الاستشهاد من أجل الإيمان، وذلك بسبب اتحاد الكنيسة مع الدّولة، فوجد راغبوا الاستشهاد في حياة الرّهبنة بديلاً مناسبًا، لا سيما في الممارسات النّسكية التي تهدف الى إماتة الذّات. وقد أصبحت الرّهبنة تُعرف بأنها الشّهادة الخضراء أو البيضاء التي حلّت محل الشّهادة الحمراء.
مرّت الرّهبنة بمراحل مختلفة حتى وصلت لمرحلتها شبه الأخيرة كما نعرفها في أيامنا هذه. ففي بداية عهدها كانت حياة الرّهبنة تُمارس داخل الكنيسة من قِبَل أشخاص مختلفين. أخذ بعد ذلك نفر قليل منهم بالانسحاب من المجتمع ليعيشوا متوحدين في البراري والقفار. وقد ذاعت شهرة بعض المتنسكين المتوحّدين، وجذبت قداستهم أشخاصًا آخرين، فجاؤوا ليسكنوا في كهوف قريبة منهم، ناظرين إليهم طلبًا للمشورة والقيادة. وأدّت هذه التّجمعات تدريجيًا لظهور الحياة الجماعية المُنظمّة في إطار دير يعيش فيه الرّهبان معًا. وهكذا ابتدأت الرّهبنة أولاً في الشّرق، وامتدّت من هناك لتنتشر في الغرب أيضًا. لكن الرّهبنة في الغرب اختلفت اختلافًا كبيرًا عن شقيقتها في الشّرق. فقد جعل طقس أوروبا البارد من الرّهبنة الجماعيّة ضرورة وذلك بسبب الحاجة لتوفير مبانٍ مُدفّأة وأماكن لتخزين الطّعام لفترة الشّتاء الطّويلة. وكانت الرّهبنة في الغرب ذات طابع عملي في تعبيرها عن رسالتها، فابتعدت عن الحياة التي تترّكز على السّكون والتّأمل، وركّزت على العمل والتّعبد.
ولا أنوي في مقالي هذا مناقشة وتقييم حركة الرّهبنة كما تظهر في أُطر كنائسها التّقليديّة، بل لفت الانتباه إلى بعض التّوجهات الرّهبانيّة التي وجدت طريقها الى كنائسنا الإنجيليّة، حتى أصبح لدينا ما يمكن تسميته بـ "الرّهبنة الإنجيلية" بشقّيها، الشّرقية والغربية. فكما رأينا، بدأت حركة الرّهبنة، خاصة في الشّرق، من خلال أشخاص قرّروا الانعزال عن العالم لما فيه من شر وفساد، وتاليًا أصبح تأثيرهم مرتبطًا بمن يأتي لزيارتهم فقط. وقد قلّدت بعض كنائسنا الإنجيليّة هذا التّوجه، فدعت أعضائها للخروج من العالم والالتصاق فقط بمن يشاركهم إيمانهم نفسه، مستخدمين بذلك آيات مثل "لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا، يقول الرب. ولا تمسّوا نجسا فأقبلكم" (2 كو 17:6). وغيرها من آيات أخرجت من سياق نَصّها لتشجيع النّاس على عدم الاختلاط في المجتمع. وبذلك تحوّلت هذه الكنائس لأديرة يجتمع بها "رهبان" و"راهبات" الدّير ليرنموا ويسمعوا عظة وتوجيهات من "رئيس الدّير"، تتمحور عادة حول العلاقة الشّخصية مع الله، كحياة الصّلاة وقراءة الكلمة، وحياة القداسة، ثم يذهبون لبيوتهم وأعمالهم، ومهمّتهم الرّئيسية تطيبق ما تعلّموا. وتنحصر علاقتهم بالمجتمع في إطار التّبشير فقط ، فهذا هو الدّور الوحيد للكنيسة في المجتمع.
وبالمقابل نجد عدّة كنائس إنجيلية، وهي قليلة في بلادنا، تبنّت خط الرّهبنة الغربية، خط العبادة والعمل. فمن ناحية تدعوا الى الالتزام الرّوحي، والحياة النّقية والاقتراب من الله. ومن النّاحية الأخرى تشدّد على العمل وخدمة المجتمع. ولتقوم بذلك، ركّزت هذه الكنائس على الادارة الكنسيّة السّليمة والعمل الجماعي، وسَعَت للتّفاعل مع المجتمع من خلال التّعامل مع الحاجات بصورة منظمة وواعية. وهكذا تُصبح هذه الكنائس نقطة انطلاق الخدمة وليس المكان الذي تُقدم فيه الخدمة فحسب. ويصبح الاجتماع مكانًا للتّعليم، والتّشجيع، والتّوجيه والتّحفيز. والمهم هنا ليس الحث على الخدمة خارج أسوار الكنيسة فقط، بل الدّور الذي تأخذه الكنيسة في تنظيم خدمات تُتيح المجال من خلالها لأعضاء الكنيسة المختلفين بالتّعبير عن إيمانهم، ليس بالكلام فحسب بل بالعمل أيضًا. فشهادة الكنيسة تظهر من خلال الكلام والعمل.
نعم، نحن بكل تأكيد بحاجة الى حياة الصّلاة والصّوم والتّقرب من الله، والعيش بقداسة. ونحن بلا شك علينا أن نعطي مجال لله كي يعمل على حياتنا بكلمته وروحه. ومن المهم أيضًا أن نشجع بعضنا بعضًا، ونُعزّي من يحتاج للتعزية، ونرشد من يحتاج للارشاد. لكن بالإضافة الى ذلك، علينا أن نخرج إلى العالم ونمارس حياة الايمان بواسطة تقديم المسيح لا بكلامنا فحسب بل بأعمالنا، واهتمامنا بالنّاس، وبمشاكلهم وآلامهم وتحديات الحياة التي يواجهونها. فدعوتنا كمؤمنين أن نذهب إلى العالم، لا أن ننتظره ليأتي إلينا. نحن بحاجة لهذا التوازن بين العبادة والعمل، لأن "الدّيانة الطّاهرة النّقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم". (يع 27:1)