نشهد اليوم في أمريكا ظاهرة خطيرة في حياة تيار في الكنيسة الانجيلية الحرة اتخذ من دونالد ترامب شبه مسيح وأصبح رؤساءه خدام بلاط وحاشية للرئيس الجديد. وقبل الولوج في خضم هذه الآفة والنظر لتداعياتها من الضروري إعطاء خلفية تاريحية.
نمت الكنائس الانجيلية الحرة في أمريكا قبل عدة قرون اثر نزوح مؤمنين أوروبيين الى البلاد الجديدة –أمريكا- بعد اضطهادهم الديني وملاحقتهم في أوروبا. وجد هؤلاء في امريكا بلد حريات ومبادرات ذاتية فاقاموا كنائسهم جديدة العهد التي نمت وازدهرت. ولقد ساهم الانجيليون مساهمة جبارة في بناء الولايات المتحدة على أساس الحرية وفصل الدين عن الدولة وانتعشت الكنيسة عامة، وان رافق ذلك انقسام لشيع وفئات وكنائس بالمئات. وبخلاف أوروبا التي تشهد اليوم عصرا تكاد المسيحية تندثر فيه منها، غير ان تأثير الكنائس وفعاليتها وازدحام كنائس أمريكا وارسالياتها للعالم كان لافتاً.
لكن في العقود الأخيرة طرأ تراجع ملحوظ على قوة وفعالية الكنائس الانجيلية الحرة في أمريكا، ومن الضروري لنا ان نعتبر من هذا التراجع ونتقصى أسبابه. ان أسبابه عديدة وسأسلط الضوء هنا على احدى النواحي المركزية فقط وهي تداخلهم السياسي اليميني.
في سنوات السبعين من القرن الماضي اقام قسيس معمداني من فيرجينيا يدعى جيري فيلول مجموعة سياسية ضاغطة (لوبي) أطلق عليها اسم "الأغلبية الأخلاقية" (Moral Majority). وهدفت المجموعة السياسية المذكورة الى دعم مواقف محافظة في الحزب الجمهوري مثل مناهضة المثلية الجنسية ومعارضة الإجهاض بالأساس. ولم تكتف بذلك لكنها تعدتها الى مواقف داعمة لإسرائيل وتؤيد الموقف الرأسمالي من البيئة (أي اعتبار قليل لضرورة المحافظة على البيئة وذلك دعماً لأصحاب رؤوس الأموال الذين يستغلون الموارد الطبيعية للكسب الاقتصادي) وغيرها من المواقف اليمينية المحافظة.
وقد كان لهذه المجموعة تأثير كثير على السياسة الامريكية بحكم كونها قوة ضاغطة وبالذات في انتخاب وايضاً في فترة ولاية الرئيس رونالد ريغين. ولكنها بذات الوقت وضعت بذوراَ سلبية ضد الانجيليين عند معارضي هذه السياسات نظراً لكون مؤسسها قسيس انجيلي ومواقفها تتغلف بمضامين مسيحية منتقاة.
انتهى دور "الأغلبية الأخلاقية" في نهاية الالفية السابقة ومات بعدها القسيس جيري ليخلفه ابنه الذي يحمل نفس الاسم. ويترأس ابنه الجامعة التي أسسها والده واسمها "ليبرتي" (أي حرية) في جنوب فيرجينيا.
واستمر جيري الابن على خطوات والده الراحل واتخذ مواقف سياسية يمينية. لكنها شذت عن مجرد ذلك فلقد فدعم بحرارة المرشح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الامريكية الأخيرة ضارباً عرض الحائط بكل الاخلاقيات التي نادى ووعظ هو عنها، اذ يناقض أسلوب حياة وتفوهات المرشح ترامب كل ما يقوله الانجيل. وللأسف اشترك مع فيلول ايضاً في دعم ترامب القس فرانكلين غراهام نجل القس بيلي غراهام (اشهر واعظ ومبشر في القرن العشرين) والقس روبرت فيغريس وهو راعي احدى اكبر وأقدم الكنائس المعمدانية في أمريكا (المعمدانية الأولى في دالاس). وشكل هؤلاء الثلاثة ومعهم آخرين مجلساً روحياً لترامب قبل انتخابه وبعده. وصرحوا تصريحات مفادها ان من يعارض ترامب، يعارض الله!!
وقد دعم 81% من الانجيليين البيض ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية مما اثار حفيظة الانجيليين من غير البيض (السود والمنحدرين من أصول اسبانية - مكسيكية) والذين اهانهم ترامب وهمشهم. كل ذلك فضلاً عن علامات الاستغراب والاستهجان الكبيرة بين غير الانجيليين من معارضي ترامب ومن الجمهور الواسع.
ان مواقف فيلول الابن ورفقائه هي استمرار لمواقف والده الراحل وتضيف حسب رأيي الى عزلة الكنيسة الانجيلية الحرة في أمريكا والى فقدان رسالتها وفعاليتها.
فدعم دونالد ترامب في الانتخابات واستمرار دعمه بعدها رغم مواقفه وطريقته وأسلوب حياته سيزيد من تحفظ وتشكك باقي الأمريكيين حول الرسالة التي يحملها هؤلاء القسوس. للأسف سيزيد ذلك من عزلة ووهِن الكنائس الانجيلية الحرة الامريكية.
فالجمهور الواسع يرى ان هؤلاء القسوس ومعهم مؤيدو ترامب يبيعون ضميرهم وانجيلهم في سبيل التقرب من السلطة وزيادة نفوذهم السياسي. فلترامب تاريخ اسود في العبث مع النساء وهذا يناقض مفاهيم العفة والطهارة التي ينادي بها الكتاب المقدس. كما انه جنى ثروته من الكازينو والقمار وهو امر يناقض مفاهيم العمل وأكل الخبز من عرق الجبين في الانجيل. كما انه صرح عن عدم حاجته لتوبة مع العلم ان التوبة للجميع هي أساس العمل الروحي في الانجيل. لقد اهان وشتم وأهان وكذب يمنة ويساراً بكبرياء لا يتلاءم على الاطلاق مع ما يعلّمه الانجيل عن أي انسان بار. كما ان موقفه قبل عدة أيام من العنصريين البيض (والذي دهس أحدهم معارضاً لهم في مظاهرة ضدهم) في تشارلوتسفيل في فيرجينيا ايضاً اثار مشاعر سلبية شديدة. لقد ساوى ترامب بين العنصريين البيض (وهم على شاكلة المجموعات النازية الجديدة) وبين المعارضين لهم فنبذ "العنف من كل الجهات" بدل التنديد الواضح بالفئة العنصرية المقيتة.
لا ينطبق ما ساقوله فيما يلي على كل مؤيدي ترامب فالبعض دعمه نظراً لسياسات هيلاري كلنتون وقبلها أوباما المسيئة هي الأخرى في مواضيع الإجهاض والمثليين. ولكن كثير منهم وعلى رأسهم جيري فيلول يتميزون بضيق افق وقومجية أمريكية واستعلائية بيضاء وبتصرفاتهم يزيدون الاستهجان وحتى البغض ضد رسالة الانجيليين نظراً لدعم دونالد ترامب المستمر.
لقد أشار الكاتب المسيحي المعروف فيليب يانسي في كتابه الأخير "النعمة المتلاشية" حتى قبل انتخاب ترامب ،ان المواقف التي يحملها غير الانجيليين عامة في أمريكا تجاه الانجيليين هي بمثابة ناقوس خطر. لقد نظروا اليهم في الماضي كفئة تعمل الرحمة وتهتم بالضعيف ولكنها أصبحت في نظرهم فئة ذات بر ذاتي ودينونة مؤيدة لمواقف يمينية لا اكثر.
حري بنا ان نعتبر من المأساة التي نراها امامنا في أمريكا وتخلي مجموعة من القسوس والانجيليين عن الدور النبوي للكنيسة وان نستخلص منها عبر لرسالتنا ودعوتنا ومواقفنا في البلاد ايضاً.