نقتـرح التَّسِلْسُلَ التَّالي لآخر أسبوع من حياةِ السَّيِّدِ المسيح: أَقامَ السَّيدُ المسيح لعازرَ يومَ السَّبت قبلَ دخوله إلى أورشليمَ يوم الأحد. ثُمَّ طَهَّرَ الهيكلَ يومَ الإثنين. ويوم الثَّلاثاء تحدّى يسوعُ رجالَ الدِّينِ في أورشليمَ الَّتـي رثاها يومَ الأربعاء. وَغَسَلَ أَرجُلَ تلاميذِه يومَ الخميس. وفي نفس اللّيلة قدَّم المسيحُ العشاءَ الأخيـرَ. وصلَّى أيضاً في جثسيماني قبل أنْ يُعتقلَ. وتَتَسَلْسَلُ الأحداثُ كما يلي: اعتقاله، محاكمته أمامَ حنانيا ثُمَّ قيافا، حبسه، محاكمته أمام جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشَّعب ثُمَّ أمامَ بيلاطس، ثُمَّ هيـرودس أنتيباس، ثُمَّ محاكمته الثَّانية أمام بيلاطس، استهزاء الجنود الرُّومان به وضربه ووضع تاج الشَّوك عليه، حمله للصَّليبَ في دربِ الآلام، ثُمَّ صلبه وموته ودفنه.
وتوضِّحُ القائمةُ التَّاليةُ الأحداثَ. ولا تهدفُ هذه القائمة إلى إعطاء تفاصيل زمنيةٍ دقيقةٍ. فنحنُ لا نعرف تفاصيلَ الوقتِ ولكنَّنا نضعُ التَّفاصيلَ الزمنيةَ التَّاليةَ لتُعين القارئَ على تخيُّل ساعات المسيح الأخيـرة. وتشرح القائمةُ الأحداثَ بعدَ أَنْ غَسَلَ المسيحُ أَرْجُلَ تلاميذِه يومَ الخميس وبعد صلاته في بُستان جثسيماني في اللَّيلة الَّتـي أُعتقلَ فيها.
12:00 – 1:00 بعد منتصف الليل - اعتقال يسوع
1:00 – 1:30 - محاكمته أمام حنانيا
1:30 – 2:30 - محاكمته أمام قيافا
2:30 – 4:00 - حبسه
4:00 – 5:00 - محاكمته أمام جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشَّعب
5:00 – 5:30 - محاكمته أمام بيلاطس
5:30 – 6:30 - محاكمته أمام هيرودس أنتيباس
6:30 – 7:00 - محاكمته الثَّانية أمام بيلاطس وإِصدار حُكم الإعدام عليه
7:00 – 7:30 - استهزاء الجنود الرُّومان بالمسيح وضربه ووضع تاج الشَّوك عليه
7:30 – 9:00 - درب الآلام وحمل الصَّليب
9:00 – 12:00 - يسوع مُعلق على الصَّليب والشَّمس مشرقة
12:00 – 3:00 - يسوع مُعلق على الصَّليب والشَّمس غائبة
3:00 - أَسْلَمَ الرَّوحَ
3:30 – 5:00 - يسوع يُدفن
صباح الأحد والظلام باقٍ - يسوع يقوم من بين الأموات
سنشرح الآنَ أحداثَ الاعتقالِ والصَّلبِ والمحاكمةِ كما يسرُدُها يُوحَنَّا. بعد أنْ أنهى المسيحُ أحاديثَ الرَّحيلِ (يُوحَنَّا 13: 31 – 17: 26) خَرَجَ مَعَ تلاميذه إِلى عبـر وادي قدرون (يُوحَنَّا 18: 1). ودَخَلَ إِلى بُستان اعتاد أَنْ يزوره مَعَ تلاميذه. اسمُ البستانِ جثسيماني (متـى 26: 36؛ مرقس 14: 32)، أي معصرة الزَّيتِ. وجاءَ يهوذا الخائنُ مَعَ كتيبة جُندٍ رومانيةٍ وخُدَّام اليهود. خُدَّامُ اليهودِ هُمْ شُرطةُ الهيكلِ. والكلمةُ "كتيبة" تعني حرفياً ألف جنديٍ روماني. وعادةً تَضُمُ الكتيبةُ مئتين وأربعين فارساً وسبعمائة وستين جندياً من المشاة. ولهم قائدٌ هو قائدُ الألف (يُوحَنَّا 18: 12). ولكنَّ الكلمة "كتيبة" تُستخدم أيضاً للدلالة على عددٍ من الجنود أقل من ألف (1) ولهذا يقتـرح البعضُ أنَّ العددَ هو مئتان جندي روماني (2) على أيِّ حالٍ، قبضوا على يسوع ومضوا به إلى حنَّان أولاً. كان حنَّان رئيساً للكهنة في السَّنوات 6 – 15 بعد الميلاد. وصار خمسةٌ من أَبناءِ حنَّان رؤساءَ كهنةٍ من بعده. ثُمَّ صارَ زوجُ ابنتهِ قيافا رئيساً للكهنة زمنَ صلب يسوع (3) وكان قيافا رئيساً للكهنة في السَّنوات 18 – 38 بعد الميلاد. وقد أراد التَّخلص من يسوعَ فاقترح قتله (يُوحَنَّا 11: 49 – 50) وحاربَ رُسُلَ المسيح وحاكمَ بطرسَ ويُوحَنَّا (أعمال 4: 5 – 6).
أخذوا يسوعَ إلى حنَّان أولاً ثمَّ إلى قيافا. وسَأَلَهُ قيافا عن تلاميذِه ليُحدِّد قوتَه العسكرية والسِّياسية وسأله أيضاً عن تعليمه ليصقل التَّهمةَ الموجهةَ إِليه (يُوحَنَّا 12: 18). وهكذا كَسَرَ اليهودُ القانونَ إذ أقاموا محاكمةً في اللَّيل وليسَ في النَّهار. وطلبَ رؤساءُ الكهنةِ شهادةَ زورٍ على يسوعَ (متـى 26: 59) وعندما لَمْ تتَّفق الشَّهاداتُ لَمْ يتعاملوا مع نفاقِ الشُّهودِ. وكانت العاداتُ القانونيةُ المتبعةُ أنْ يُثبتوا التُّهَمَ، لا أنْ يستجوبوا المُتَّهمَ، ومن غيـر القانوني أنْ يبدأَ الشُّهودُ بتوجيه التَّهم، بل يجب أنْ يبدأَ القضاءُ بالإصغاء إلى المدافعين عن المُتَّهَمِ إنْ وُجدوا. إِضافةً إلى ذلك، من غيـر القانوني أَنْ يَضربوا المتهمَ قبلَ إدانته. لقد تحدَّى يسوعُ الظُّلمَ. فَلَطَمَهُ واحدٌ من الخُدَّامِ أي أحد أفراد الشُّرطة. لم يتراجع يسوعُ عن موقفه، بل أَصرَّ على تحدّي الظُّلمَ بالحقِّ. قاوَمَهُ بالمنطقِ الصحيح وبإِثارة الأسئلة المناسبة قائلا: لماذا تسألني؟ . . . لماذا تضربني؟ ثُمَّ قاوم المسيحُ الظُّلمَ بالتَّوجه للشَّعب إذ قال: "أنا كلمت العالم علانية . . . اسأل الذين سمعوا ماذا كلّمتهم" (يُوحَنَّا 18: 20 – 21). وهكذا أَدارَ الخدَّ الآخرَ إذ سعى إِلى التَّفاعل من منظور المحبة والحقِّ ومقاومة الظُّلم بالخير. بعد محاكمته أمام قيافا، حاكموه أمام جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشَّعب (متى 27: 1).
وعند الصبح جاءوا به إلى دار الولاية وهي مقرُّ الوالي الرُّوماني أثناء إقامته في أورشليم. وكان بيلاطسُ واليَّ اليهودية في السَّنوات 26 – 36 بعد الميلاد. وكان سفَّاحاً بحسب شهادة إنجيل لوقا الَّذي يُعْلِمُنَا أنَّ بيلاطسَ خَلَطَ دمَ الجليليين بذبائحهم (لوقا 13: 1) وشهادة المؤرخ اليهودي يوسيفيوس الَّذي يَشرحُ كيف ذَبَحَ بيلاطسُ عدداً كبيـراً من السَّامريين (4) ودبَّر المُتَهِمُون اليهودُ تهمةً سياسيةً أمام بيلاطس. فقالوا عن يسوعَ: "إننا وجدنا هذا يُفسدُ الأُمَّةَ، ويمنع أنْ تُعطى جزية لقيصر، قائلاً: إنَّه هو مسيحٌ ملك . . . إنَّه يُهَيَّج الشَّعب" (لوقا 23: 2 – 5). وحاكمَ بيلاطسُ المسيحَ المظلومَ. ففشل القضاءُ وصارت العدالةُ عمياء تنشر الشّرَ بدلاً من الإنصاف لأنَّ الحاكمَ سياسيٌ خبيـرٌ في إرضاء الجمعِ والمحافظةِ على كرسِّيه.
ولقد جَلَدَ بيلاطسُ المسيحَ قبل الحُكم بصلبه إلا أن متـى 27: 26 ومرقس 15: 15 يتحدثان عن صلب المسيح بعد إِصدار الحُكمِ الرُّوماني بصلبه. ولهذا يشرح لنا كارسون أنَّه ثمة ثلاثة أنواعٍ من الجَلْدِ عند الرُّومان: (1) فستيجاتيو، وهو الجَلْدُ الأقلُّ خطورة على الحياة. وكان هذا النَّوع من الجلد مخصصاً للجرائم الأقل خطورة. (2) فلاجيلاتيو، وهو جَلْدٌ أقسى من الجَلدِ الأوَّلِ ومخصصٌ للجرائم الأكثـر خطورة. (3) أمَّا الجَلْد الأسوأ فيُدعى فيربيراتيو. ويرتبطُ هذا النَّوع بالصّلبِ. وفي هذا الجلدِ يستمرُ ضربُ المذنبِ إلى أنْ يَتْعَبَ الضاربون أو إلى أنْ يموتَ المذنبُ. وكانوا يجلدون بشرائط جلديةٍ يرتبط بأطرافها العظامُ أو المعدنُ المعقوف مثل الشنكل مما يُسببُ جروحاً عميقةً في المضروبِ فيموت من الألمِ والنزيف (5) ويبدو لي أنَّ المسيحَ جُلِدَ مرتين: مرةً قبلَ إِصدار الحكم بإعدامه ثمَّ جُلِدَ جَلْدَ الصَّلبِ. ويقولُ الكتابُ المقدَّسُ أنَّ بيلاطسَ أَخَذَ يسوعَ وَجَلَدَهُ (يُوحَنَّا 19: 1) قبل قرار الصَّلبِ.
وبعد لقاء يسوع الأوَّل مع بيلاطس وجلده الأوّل، التقى مع هيـرودس أنتيباس. ولقد احتقره هيـرودسُ مع عسكره واستهزأ به، وأَلْبَسَهُ لِباساً لامعاً، ثُمَّ ردَّه إلى بيلاطسَ (لوقا 23: 11). أراد بيلاطسُ أنْ يُطلقه ولكنَّه أطلقَ باراباسَ بدلاً عنه. وبالرّغم من تأكيد بيلاطس ثلاث مراتٍ أَنَّه لا يجدُ علةً في المسيح (يُوحَنَّا 18: 38؛ 19: 4، 6) أسْلَمَهُ إليهم ليُصلب (يُوحَنَّا 19: 16). كانت تهمتُه أنَّه ملكٌ. وهكذا وَصَفَه بيلاطسُ باستخفافٍ (يُوحَنَّا 18: 39؛ 19: 14 – 15، 19، 21). وسَارَ المسيحُ في دربِ الآلامِ. فبعد جَلْدِه وتتويجه بالشَّوك، حَمَلَ عارضةَ الخشبِ الأفقية الّتـي سيُصلبُ عليها. وهي تُدعى باللاتينية باتيبولوم. وسار نحو حتفه حيث سيُصلب.
وقبل أنْ يُصلب المُدانُ كان الجنودُ ينزعون ثيابَه ويربطون يديِّه في مكانٍ أَعلى منه ثمَّ يجلدونه بعظامٍ أو بحديدٍ على ظهره ورجليه فينـزف كميةً كبيـرةً من الدِّماءِ ممّا يَستنزفُ قوَّتَه ويَجعلُ استمرار حياته لأكثـر من بضع ساعاتٍ أمراً صعباً. وبعد جَلْدِه يحمل المُدان عارضةَ الصَّليبِ. وفي بعض الأحيان، كان وزنُ الصّليبِ يصل إلى مئة كغم. أما العارضة فوزنها 35 – 50 كغم. وكان المذنبُ يلبسُ لافتةً تَشرحُ تهمتَه ثمَّ تُعلَّقُ على الصَّليبِ. فكتبوا فوق صليب المسيح: يسوع النَّاصري ملك اليهود. وبعد الوصول إلى مكانِ الإعدامِ خارجَ أسوار المدينة كانوا يقدِّمون للمُدان بعضَ النّبيذ المخلوط بالمرِ كمُخدرٍ للآلام. ولكنَّ المسيحَ رَفَضَ أنْ يشربه (مرقس 5: 23). وينامُ المُدانُ على الأرض إذ تُثقبُ يداه بالمسامير وتُدقُّ على العارضة ثم يُعلَّقُ على العمود وتُثقبُ رجلاه بمسار العمود الطَّويل. ويجلسُ على خشبةٍ بارزةٍ صغيرةٍ في وسط الصَّليب. وكانت الخشبةُ تساعد في إطالة حياة المصلوب وبالتَّالي تزداد فتـرةُ عذابِه. ولم يستطع المصلوبُ أنْ يتنفسَ بحرية. فكان عليه أَنْ يحاولَ رفع نفسه ليلتقط أنفاسَه. وكلُّ مرة يرفع بها نفسَه تؤلمه جروحُهُ حيث المسامير. وإذا أراد الجنودُ أنْ يموتَ أحدُ المصلوبين بسرعةٍ كسروا رجليه، فعندئذ لا يستطيع رفع نفسه ليلتقط أنفاسَه فيموت خنقاً. وربما يموت من الطُّيور الجارحة التي كانت عادةً تأتي لتلتهم المصلوبين. وهكذا كان يسوعُ مُعلَّقا على الصَّليب مدة ست ساعاتٍ (مرقس 15: 25، 34)، من التَّاسعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر. واختفت الشَّمس من الثَّانية عشرة ظهراً حتى الثَّالثة بعد الظهر.
كان الصَّليبُ أكثرَ أنواع الإعدام قسوةً وإهانةً وألماً. ولقد صَنَّفَهُ الرومانُ بأَنَّهُ أَسْوأُ من قطعِ الرأس أو من الإعدامِ حرقاً أو من افتـراسِ الأسود. وَكَتَبَ عنه أَحدُ فلاسفةِ القرنِ الأولِ قائلاً:
هل نَجِدُ أحداً يُفضِّلُ أنْ يموتَ بالآلام مُدَمِراً عُضواً تلوَ الآخر ومستنفذا حياتَه قطرةً تلو الأخرى بدلاً من القضاءِ عليها بسرعةٍ؟ هل نَجِدُ شخصاً مستعداً أنْ يُعلَّق على شجرةٍ ملعونةٍ وأنْ يكون بائساً ومشوّهاً ومُنفَّخَاً من جروحِ الصَّدرِ والكتفين وأنْ يَستنشقَ الهواءَ بألمٍ شديدٍ؟ حقاً يُوجَدُ أَعذارٌ كثيرةٌ لموتِ الإنسانِ قبل أنْ يُصلب (6)
ولقد تأَثَّر الشُّعراءُ الفلسطينيون الَّذين عانوا الحروبَ والتَّشردَ والنكسة والنكبة بآلالام المسيح فصار المسيحُ المصلوبُ رمزاً لآلام الفلسطينيين في شعرهم (7) لم يتحدثوا عن المسيح المصلوبِ لأنَّهم صاروا مسيحيين ملتـزمين بتعاليم المسيح، بل لأنَّ الواقعَ السِّياسي والإجتماعي للسَّيِّد المسيح مشابهٌ لواقعهم سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين. ويشرحُ القِسُ متري راهب مُساهمة الشَّعراءِ الفلسطينيين لاسيَّما محمود درويش الّذي أَطَّرَ مُعاناةَ الشَّعبِ الفلسطيني في صليبِ المسيح وفي مقاومته للشَّر (8) فبعد أن تحدَّث متـري عن تميَّـز فلسطين جغرافيا وسياسيا وجيولوجيا واجتماعيا جعل السِّياقَ الفلسطينيَّ أَفضلَ عدسةٍ تفسيريةٍ لفهم فكر الله. (9) ثُمَّ استخدم هذه المقاربة في شرحه للصَّليب مؤكداً أَنَّ الصَّليبَ أفضلُ طريقةٍ لوصف الهوية الفلسطينية (10) فأكّدَّ أنَّ فلسطينَ وشعوبها تميّـزوا بالمعاناة عبـر التَّاريخ فصاروا أهلَ الصَّليبِ (11) وفي منظوره، فلسطينُ أرضٌ مصلوبةٌ وأَهلُها مصلوبون إذ تظلمهم إمبراطوريةٌ تلو الأخرى. وهكذا صار الصَّليبُ نموذجاً للأسير الفلسطيني والشَّهيد الَّذي يُضَّحي بحياته في سبيل الحقِّ إذ يُقاوم الدَّولة الظَّالمة (12) وصار الفلسطيني ضحية إرهاب الدَّولة والإرهاب الدَّيني تماماً مثل السَّيِّد المسيح (13)
بالغ القس متـري بتأكيد دور الصّليب الخلاصي السَّياسي والاجتماعي إلا أَنَّه أصاب الهدف في التَّشديد على رؤية الصَّليب من منظور سياسي واجتماعي. وربما بالغ أيضاً في التشديد على التواصل الجغرافي والسّياسي والاجتماعي بين المسيح وأهل فلسطين عبـر العصور فتجاهل أهمية التمسك بالعهد الإلهـي في مواقع جغرافية أخرى كما يظهر في العهدين القديم والجديد. فمن الضروري أنْ نتذكر عملَ الله في مصر والعراق وإيران والشّتات ومع الفقراء والملوك أيضاً. فلقد عمل الله خارج فلسطين ومع شعوب كثيـرة ومع فقراء ورؤساء أيضاً. إِضافة إلى ذلك، من الضروري أن نلاحظ الأوجه الأخرى للصليب الَّتـي لا تقل أهمية عن المنظور السّياسي والاجتماعي. فمثلا، يؤكد ستوت ورتلدج على أهمية دور الصَّليب في خلاص الخُطاة إذ فيه قدَّم الآبُ ابنَه الوحيد ذبيحةً بدلية عن الخطاة فتحدَّث عن قداسة الله وخطيئة الإنسان والكفَّارة والفداء والتَّبرير والمصالحة (14) ويشرح مولتمان تأثير الصَّليب على فهمنا لهوية الله. فهو الإله المصلوب. تألم الآب بتضحيته بابنه الوحيد وتألَّم الابنُ بطاعته الكاملة للآب. وهكذا لا يتعلق الصَّليب بالخلاص فحسب ولكنه يتعلق أيضاً بطبيعة الله إذ نلتقي فيه مع الله المتألم. تألم الآب بتقديم ابنه الوحيد يسوع المسيح ورآه مُهانا مرفوضاً. وتألَّم الابنُ بسبب الظُّلم السَّياسسي والاجتماعي والدِّيني وبسبب خطيئة الإنسان. فعانى آلامَ الجسدَ والنَّفسَ وحمل ذنوبَ البشر. وزاد ألمُهُ حين حَجَبَ الآبُ وجهَه عنه. فصرخ قائلاً: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وصار اللهُ في الصَّليب متألماً مع المتألمين واختبـر الهجران والخيانة والعار. صار مصلوباً مع المصلوبين وصار مجرماً مع المجرمين ولا لغط إذ قلنا صار إرهابياً مع الإرهابيين. فالكلمة لص هي الكلمة المترجمة أيضا "قاطع طريق". ولقد استخدمت للدلالة على الإرهابيين الَّذين تحدوا الإمبراطورية الرُّومانية.
وهكذا نستطيع أن ننظر إلى الصَّليب تاريخياً وخلاصياً وسياسياً وسوسيولوجياً. وننظر إليه أيضا لاهوتيا كما فعل مولتمان إذ تأمل في طبيعة الله المصلوب (15) إضافة إلى ذلك، ليس الصَّليبُ شيئا نراه فحسب بل هو أيضاً عدسةٌ ننظرُ من خلالها. إنَّه ليس مجرد قطعة خشبية تتلاقى مع أنظارنا بل هو أيضاً منظورٌ نرى من خلاله العالمَ. وليس الصَّليبُ حدثاً تاريخياً فحسب بل هو حدثٌ خلاصيٌ أيضاً. والصَّليبُ هو علامةُ التلمذة وهو طريقةُ حياة. نموتُ في سبيل طاعة الله. نموتُ في سبيل التَّأكيد على محبة الأعداء. ونحن الفلسطينيون في إسرائيل نتذكر أنَّ الصَّلبَ لم يكن نصيب مواطني الدَّرجة الأولى. فمواطنو الدَّرجة الأولى لا يُصلبون إذ أنَّ القانون الروماني منع هذه الإهانة لمواطنيه. كان يسوعُ مواطنَ درجةٍ ثانيةٍ في ملكوت روما ولكنَّه مواطنُ درجةٍ أولى في ملكوت السَّماوات. وجسَّدَ يسوعُ بصليبه نمطَ حياة الصَّليبِ. فالصَّليبُ هو طريقُ مقامة الشَّر وصلب الذات في سبيل طاعة الله. وهو طريقُ مقاومة التَّمييـز السِّياسي والاجتماعي للعرب واليهود في إسرائيل. ففي الصَّليب الجميع متساوون. وفي عقلية الصَّليب الكلُّ مُدان وناقصٌ في القداسة. ولكنَّ الصَّليبَ يخلصنا من السَّلام الزائف الَّذي تعرضه الدَّولة والأنظمة الدِّينية الفاسدة. فسلامُ الصَّليب لا يعتمد على إسكات صوت الحق بالعنف بل على فضح العنف السِّياسي والدِّيني بالإصرار على محبة العدو والغفران والحق والعدالة والمساواة والمصالحة مع الله ومع القريب. إنها عقلية الصَّليب. إنها العقلية الَّتي تنظر إلى المقاييس الإلهية. إنَّ الصليبَ هو الطريقُ الَّذي نَخْلُصُ به من العنف الَّذي يَعْرِضه قيافا وبيلاطس. الصَّليبُ هو طريق الخلاص من الدَّولة الاثنية إذ يعرض مملكةً لكل المصلوبين. ففي الصَّليب نشاهد الإرهاب السّياسي ضد صوت المحبة والعدالة والرَّحمة. وفيه نواجه ظلم الامبراطوريات ضدَّ الفئات الضَّعيفة. وفيه نجدُ قوةَ الغفران وثقافة المحبة والتَّصميم على قتل الشَّر بكل أنواعه وأشكاله. ويُعبِّـر الصَّليبُ عن تناقضٍ صارخٍ، ففي ضعفنا نصبح أقوياء وفي موتنا ثقافة الحياة. نحن أهلُ الصَّليب في بلد كَثُـرَ فيه الصَّالبون. ولكنَّ جروحَنا من أجل المصلوب ستشهد عن قيامة المسيح وقيامة عصرٍ جديدٍ تسود فيه العدالةُ والمحبةُ. فالصَّليبُ هو المكانُ الَّذي هَزَمَ فيه اللهُ الخطيئةَ والَّذي ظهرت فيه حكمةُ الله. نعم، نحن أهلُ الصَّليب ولكنَّنا أهلُ القيامة أيضاً.
(1) Carson, 577.
(2) Beasley-Murray, 322.
(3) Carson, 580 – 581.
(4) Josephus, Antiq. 18.4: 1-2.
(5) Carson, 597.
(6) Dialogue 3: 2. 2
(7) سعدي أبو شاور، تطوّر الإتجاه الوطنيّ في الشّعر الفلسطيني المعاصر (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003)، 36 – 41.
(8) Mitri Rabeb and Suzanne Henderson, The Cross in Contexts: Suffering and Redemption in Palestine (Kindle Edition; Maryknoll: Orbis, 2017), loc 1460.
(9) Mitri Raheb, Faith in the Face of Empire.
(10) Raheb and Henderson, Loc 337.
(11) Rabeb and Henderson, loc 2288.
(12) Ibid., Loc 1247.
(13) Ibid,. Loc 730.
(14) John Stott, The Cross of Christ (Leicester: InterVarsity, 1986); Fleming Rutledge, The Crucifixion: Understanding the Death of Jesus Christ (Grand Rapids: Eerdmans, 2015).
(15) لا نستطيع أنْ نتعامل مع هذه المقاربات وكأنَّها مُنعزلة الواحدة عن الأخرى إلا أنَّنا قد نشدد دراساتنا على جانب ولا نُعير الجوانب الأخرى اهتماماً كافياً.