"المسؤولية" – هي كلمة مكروهة. فالبشر يحبون الحقوق والامتيازات والفوائد ولكنهم لا يحبون الواجبات أو المستحقات أو المسؤولية.
مفهوم المسؤولية وأهميتها يُحييان الفرق الشاسع على الكرة الأرضية بين الغرب والشمال من جهة والشرق والجنوب من الجهة الأخرى. فدول أوروبا الشمالية وأمريكا الشمالية متطورة علمياً ومتقدمة اقتصادياً وتنعم بالرفاهية بينما تتخلف دول شرق أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية (الجنوبية) وتصارع في نفس النواحي (1). يعود البون الشاسع بين هذه المناطق والأخرى أي أسباب عديدة. أحد الأسباب هو الاختلاف في فهم معنى المسؤولية الشخصية وأهميتها. ويعود هذا المفهوم المختلف فيما يعود لجذور الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر.
أبرز مارتن لوثر قبل خمسة قرون مفهوم المسؤولية الشخصية بعد أن كان مطوياً ومنسياً في بطون الكتاب المقدس. وشدد لوثر على مسؤولية كل فرد في طلب الخلاص والإيمان وعلى نعمة الله المخلصة والمجانية (2). وقد حدث ذلك اثر استنارته للآية: أما البار فبالأيمان يحيا"(3). أما جون كلفن وهو مصلح بروتستانتي آخر والذي عاصر مارتن لوثر وعاش في سويسرا وفرنسا بعد عدة سنوات فقد أتى بنفس المفهوم من زاوية أخرى. طرح كالفن قضية دعوة كل انسان مؤمن من خلال عمله. أوضح كالفن ان هناك دعوة لكل مؤمن من خلال عمله ومهنته. وتنعكس هذه الدعوة في المسؤولية الشخصية لكل انسان ان يعمل بحد ونشاط من خلال مهنته او وظيفته وبهذا هو يبرهن ايمانه الشخصي ويأتي بثمار ايمانه. فالعمل في المهن المختلفة دعوة الهية للفرد والنجاح الذي يرافقها برهان على بركة ونعمة الرب (4) هذه الدعوة هي تتميم لما حث عليه الرسول بولس اذ كتب: "وكل ما فعلتم، فاعملوا من القلب، كما للرب ليس للناس، عالمين انكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث، لأنكم تخدمون الرب المسيح" (5)
وقد نسب عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر في بداية القرن العشرين التقدم الاقتصادي في دول شمال أوروبا وامريكا الى تشبع هذه البلدان بالفكر الكلفيني البروتستانتي والى اعتناق مواطنيها للعقيدة المسيحية البروتستانتية عامة والكلفينية خاصة (6) أي ان الايمان الشخصي للمواطنين كما سمعوه في كنائسهم شدد على دعوة الفرد ليقوم بعمله بنشاط وتميّز لكي يرضي الهه. ان حياة النشاط والجد هي التي جاءت بازدهار اقتصادي منقطع النظير تتمتع به تلك البلاد والى استمرار هذا الإرث في تلك البلدان حتى بعد ضعف الكنائس البروتستانتية فيها.
اصطدم هذا التعليم بعقيدة وممارسات الكنيسة الكاثوليكية التي نادت بقبول أعضاءها لأسرار الكنيسة والطاعة للكنيسة. أما في الشرق الأوسط فاصطدم بالعقلية الشرقية التي تعتبر الفرد غير قائم بنفسه وهو جزء من الكل. فالعقلية الشرقية تكرّس المسؤولية الجماعية والعائلية والحمائلية. انها عقلية التعاضد والتكافل الاجتماعي بمفهومه الإيجابي والسلبي على السواء. الغرب يتغنى بالفردية والمسؤولية ونحن نتغنى بالانتماء الجماعي والمسؤولية الجماعية. الانسان يعيش لوحده في الغرب ويقرر بشؤونه دون تأثيرات من أي كان، بينما مجتمعنا يملي على الفرد أي قرارات يأخذ وأي قيم يتبنى وعن أي شيء يمتنع. ودليل بسيط ملموس لذلك هو عندما تلتقي بفرد ما في الغرب فيسألك عن اسمك وما تعمل (مهنتك) بينما في الشرق يسألك عن عائلتك ودينك وانتماءاتك. انها قضية فكر مختلف.
لا نقصد طبعاً التخلي عن التكافل الاجتماعي والعلاقات العائلية ولكن يتوجب ان توضع في سياقها الصحيح وليس ان تطغى على كافة نواحي الحياة لتلغي المسؤولية الشخصية.
لقد قاد الفكر المكرّس للمسؤولية الشخصية الى اختيار الأشخاص للوظائف بحسب الكفاءات بينما في الحضارات التي تفتقر لها- بحسب المحسوبيات. لقد قاد هذا الفكر الى تحديد اهداف يمكن قياسها في تلك الدول والى عمل عشوائي دون اهداف واضحة في الدول الخالية منها. لقد قاد الفكر الى نظام محاسبة ومرجعية دقيقين لكل عامل وموظف والى انعدام المرجعية حيثما غاب.
ان اعتماد هذا الفكر الكتابي الذي كشفه جون كالفن ضروري على الصعيد الكنسي من جهة وعلى الصعيد الفردي من جهة أخرى.
يتوجب أن الكنيسة تتبنى أعلى درجات المسؤولية الشخصية والمرجعية في طريقة خدمتها. يتوجب ان تضع اهدافاً وتعمل على تحقيقها فانه من نافل القول انه يتوجب أن الكنيسة كجسد المسيح على الأرض كهيئة متميزة وفعالة كما يليق بمن تخدم فاديها ملك الملوك ورب الأرباب.
أما من الناحية الشخصية - فان الدعوة الإلهية التي تعتمد المسؤولية الفردية للعمل بجد ونشاط بأمانة وتميُّز هي مطلب الساعة لكل مؤمن. فبهذه الطريقة ينتشر المؤمنون الاكفاء الأمناء الناجحين في كافة مرافق الحياة. وهكذا يبثون رائحة المسيح الزكية بكلامهم وقيمهم وتصرفاتهم. 1- https://en.wikipedia.org/wiki/North%E2%80%93South_divide 2- http://www.ligonier.org/blog/justification-faith-alone-martin-luther-and-romans-117/
3- غلاطية 3: 11، رومية 1 :17 وحبقوق 2: 4 . 4- https://tifwe.org/john-calvin-doctrine-of-work/
5- كولوسي 3: 23-24، انظر ايضاً عدد 17 من نفس الاصحاح. 6- https://is.muni.cz/el/1423/podzim2013/SOC571E/um/_Routledge_Classics___Max_Weber-The_Protestant_Ethic_and_the_Spirit_of_Capitalism__Routledge_Classics_-Routledge__2001_.pdf