ان لعيد الغفران ("كيبور"- بالعبرية) مغزى ديني وروحي عميق لليهود. انه عيد يطلب فيه اليهود المغفرة على ذنوبهم خلال العام. وكان الطقس المرتبط به في العهد القديم هو دخول رئيس الكهنة الى المنطقة المعروفة ب-"قدس الاقداس" في الهيكل. وهناك يقدم هو قرباناً عن نفسه وعن الشعب بواسطة تقديم ذبائح حيوانية. وحيث ان الهيكل قد هدم، فقد تعسّر تقديم الذبائح اليوم "ويكتفون" بالصلاة والصوم.
بحسب ايماننا المسيحي المؤسس على العهد القديم- أبطل ذلك في الذبيحة العظمى التي قدمها الله بابنه يسوع المسيح الذي حمل خطية العالم كله. لقد كانت الذبائح في العهد القديم تستر الخطايا ولوقت معين فيضطرون لإعادة الكرّة العام الذي يليه – مرة تلو الأخرى. هذه الذبائح كانت رموز للذبيحة الكاملة الآتية والثابتة الى الابد وهي فداء يسوع على الصليب.
وقد اوضح كاتب سفر العبرانيين الايمان المسيحي بهذا الشأن بأوضح الكلمات اذ قال:
"واما المسيح، وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة.... وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة الى الاقداس، فوجد فداء ابديا لأنه ان كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين، يقدس الى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح ازلي قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من اعمال ميتة لتخدموا الله الحي!" (عبرانيين 9: 11- 15)
ولكن لا يمكن تجاهل المفارقات (وبعضها طريف وآخر اكثر جدية) ما بين المعنى الديني للكيبور والممارسة اليهودية له وبين المعنى الشعبي بالعلاقة مع الفلسطينيين سكان إسرائيل اليوم.
للعربي الاعتيادي – يوم الكيبور هو يوم الدراجات. انه يوم واحد في السنة لركوب الدراجات. ان ثقافة ركوب الدراجات غير موجودة في مجتمعاتنا. فبلادنا جبلية وشوارع بلادنا ضيقة وكثرة وسائل النقل وثقافة السائقين المتهورة والمهملة – تجعل ركوب الدراجات في الأيام الاعتيادية عويصاً. ولكن في يوم الكيبور تنطلق الجماعات الشبابية العربية زرافات زرافات على دراجاتها التي ازيل عنها غبار التخزين، ولُمّعت حتى اشتد بريقها الى المدن اليهودية مثل نتسيرت عليت لتلعب في الشوارع.
ونظراً لفرصة ركوب الدراجات يوم الكيبور في الشوارع الفارغة فان سرقة الدراجات تكثر في مثل هذا اليوم. واعرف عائلة سرقت دراجة ابنتها، ولكنها عزّت نفسها، وعلى سبيل المزاح، أنه لو كانوا يهوداً لكانت ذبيحتها ليوم الغفران هي الدراجة التي سرقت.
ولا بد ان يوم الكيبور يعرضنا الى مشهد سريالي من الدرجة الاولى. انه مشهد المدينة اليهودية الحديثة المنظمة والمتقدمة التي ينظر اليها العرب بغيرة وحسرة اذ ما قارنوها بمدنهم وقراهم المتأخرة والفوضوية. ان هذه المدينة خالية ليوم واحد من السنة من الحركة والصوت بينما يقبع اليهود في بيتوهم بصوم وتقشف وصلاة وطلب الغفران على خطاياهم (وقسم كبير من تلك الخطايا هو ضد العرب). وإذ يحل الظلام وتفرغ المدينة – يخرج أهلها العرب واهل مدن وقرى مجاورة الى رياضتهم القومية السنوية – الى شوارعها ليقضوا الوقت فيها وقد امست بمثابة ساحات وملاعب حاضرة لهم لسياقة دراجاتهم عليها. أصبحت المدينة ليوم واحد كأنها مدينة ملاهي ولعب للأولاد العرب بينما يقبع أصحابها واسيادها في بيتوهم لاعتبارات دينهم. ولربما كان هناك ذرة من العدل الإلهي برعاية يوم الغفران بأن أولاد العرب أنفسهم هم من "يستمتعون" بشوارع المدينة الخالية. اليهود يحزنون ويصومون والعرب يفرحون ويلعبون في شوارع اليهود الخالية.
ان المشهد السريالي في المدن اليهودية كنتسيرت عيليت هو فقط من باب الرمزية والطرافة ولكن هناك مفارقة أخرى- اذ ان إسرائيل تغلق الحدود وتحكم الاغلاق خلال اعيادها وبضمنها عيد الغفران. فتفرض إسرائيل الحبس على الفلسطينيين في الضفة الغربية في مناطقهم المقلصة والمهملة أصلا وتمنعهم من السفر والتنقل لكي يقبعوا هم في حبسهم الذي فرضه عليهم دينهم في بيوتهم صائمين مصلّين وطالبين المغفرة...
مفارقة أخرى هي المتعلقة بالهيكل الذي بنى على انقاضه المسجد الأقصى. بحسب الشريعة اليهودية- يكتمل غفران الخطايا بتقديم الذبائح في الهيكل وهذا غير متيسر حالياً. ولكن المجموعات اليهودية الأكثر تديناً وتعصباً هي التي تدعو الى هدم المسجد الأقصى لكي يقدروا ان يتمموا فرائض دينهم في يوم الغفران (وامور أخرى أيضا) في الهيكل. أيعقل ان غفران خطيتهم "ورضى الله عليهم" متعلق بأذى وألم لمئات ملايين المسلمين في العالم، إذا ما فلحوا في هدم المسجد الأقصى؟!
هذه المفارقات تذكرّنا جميعاً من كل الديانات والطوائف، وليس اليهود فقط، ان رغبة الله هو فعل الخير والعدل وليس الطقوس والاعياد والصوم والصلاة الخاليين من توبة حقيقية. كما قال النبي اشعياء في سفره:
"رؤوس شهوركم واعيادكم بغضتها نفسي. صارت عليَّ ثقلا. مللت حملها. فحين تبسطون ايديكم استر عيني عنكم وان كثرتم الصلاة لا اسمع. ايديكم ملآنة دما. اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر افعالكم من امام عيني كفوا عن فعل الشر تعلموا فعل الخير اطلبوا الحق أنصفوا المظلوم اقضوا لليتيم حاموا عن الارملة". (أشعياء 1: 14-17)