نعيش في سياق مليء بالشرور السياسية والاجتماعية بأشكالها المختلفة. ومن هذا المكان نقرأ الكتاب المقدس الذي يقول: "لا تقاوموا الشر" (متى 5: 39). وربما يبرر البعض مواقفهم السياسية والاجتماعية باسم هذا النص. لهذا أرى أنه من المناسب إبراز بعض القضايا المهمة إذ يتحدث النص عن المقاومة والتعامل مع الشر. وثمة بضع ملاحظات متعلقة بما لا تعنيه الآية.
أولا،لا تعني الآية أننا يجب ألا نقاوم الخطيئة إذ من الحكمة أن نفرق بين الشر والخطيئة. لا شك أن الله يريدنا أن نقاوم الخطيئة والتعدي والإثم. ولا تعني وصية المسيح أن نستسلم لاغراءات الزنى والقتل والكذب وغير ذلك. وفي الواقع يشجعنا الكتاب المقدس أن نقاوم الخطيئة بكل اشكالها إذ يقول: "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عبرانيين 12: 14).
ثانيا، لا تعني الآية عدم مقاومة الشرير. يريدنا الله أن نقاوم الشرير إذ يقول الكتاب: قاوموا إبليس (يعقوب 4: 7). قاوموه راسخين في الإيمان (1 بطرس 5: 9). ويقول أيضا "حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة" (أفسس 6: 16). ويريدنا الله أن نقاوم في اليوم الشرير (أفسس 6: 13) وأن نغلب الشرير (1 يوحنا 2: 14).
ثالثا، لا تعني الآية عدم مقاومة البدع والهرطقات وتعاليمها أو عدم تحدي أخطاء القادة. فلقد قاوم المسيح الكتبة والفريسيين. وقاوم بولس تعاليم المتهودين. وقاوم الرسل التعاليم المضللة والسحرة والشرور الكثيرة. وقاوم الرسول بولس أحد قادة الكنيسة المعروفين إذ يقول الكتاب المقدس: "ولكن لما أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهة لأن كان ملوما" (غلاطية 2: 11).
رابعا، لا تعني الآية عدم مواجهة الشر. فلقد تحدى يوحنا المعمدان الرئيس هيرودس مؤكدا أنه لا يحل له أن يتزوج هيروديا امرأة فيلبس أخيه. وكان التحدي علنيا. فسُجن المعمدان وقتل. وعندما قاوم عليم الساحر كلمة الله وبولس. أجابه الرسول بولس: أيها الممتلئ كل غش وكل خبث! يا ابن إبليس! يا عدو كل بر! ألا تزال تُفسد سُبل الله المستقيمة؟ فالآن هوذا يد الرب عليك، فتكون أعمى لا تبصر الشمس إلى حين" (أعمال 13: 10). كلمات بولس حازمة وواضحة عندما واجه الشر. وتذكروا أنه يتحدث مع شخص في معية الوالي وله تأثير على سياسته. على أي حال، يعلمنا الرسول بولس ألا نجازي عن شر بشر بل نقاوم بطرق مختلفة قائلا: لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير (رومية 12: 21).
خامسا، لا تعني الآية التخلي عن المطالبة بالعدالة القضائية. يسمح بولس للمؤمنين أن يعالجوا أمور هذه الحياة التي يختلفون عليها في محاكم كنسية (1 كورنثوس 6: 4). وعلم المسيح تلاميذه أنه في حالة عدم توبة المخطئ يشاركون الكنيسة بالمشكلة. وقرار الكنيسة ملزم (متى 18: 15 – 20). ورفع بولس دعواه إلى قيصر عندما شعر أنه سيُظلم في المحاكمة. فاستخدم القضاء في سبيل الوصول إلى حكم عادل. ووصف الحاكم بأنه خادم الله. ينشر الحاكم العدل ولا يحمل السيف عبثا (رومية 13).
في ضوء ما سبق، من المناسب أن نحذر القارئ من فرض مفهوم خاطئ على هذه الآية. وتبرير انتشار الظلم بكل أشكاله والتقاعس عن مقاومته باسم المسيح وما قاله في الموعظة على الجبل. فهذا تشويه لتعاليم المسيح ولتعاليم الكتاب المقدس. وهو أيضا فهم مغلوط للآية التي نحتاج أن ندرس سياقها وخلفيتها ومعانيها. وهذا أمر يتطلب مقالا آخر.