أستهل مقالتي هذه بكلمات الكتاب المقدس، مأخوذة من سفر التثنية، الإصحاح 16 والآية 20، يقول: "العدل العدل تتبع لكي تحيا وتمتلك الأرض التي يعطيك الرب إلهك"، وصية من أحد أسفار الشريعة، منطوقة بفم النبي موسى بوحي إلهي.
عكس العدل هو الظلم، وبولس الرسول يؤكد في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس أن "الظالمين لا يرثون ملكوت الله"، بل ويوازيهم بالزناة وعبدة الأوثان والفاسقين والمأبونين ومضاجعي الذكور والسارقين والطماعين والسكيرين والشتامين والخاطفين !!! (1 كو 6: 9).
من هنا، فموضوع العدل أو عدم الظلم هام بمكان من الجدير اعتباره ودراسته، والأهم من ذلك صنع العدل وتطبيقه في حياتنا العملية بحسب المقاييس التي تمليها كلمة الله، وليس مقاييس علمانية أرضية، كما يؤكد النبي ميخا قائلا: "قد اخبرك ايها الانسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب، الا ان تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعا مع الهك"، فنحن مُطالبون بصنع الحق والعدل، كيف لا وإلهنا إله عادل بل هو العدل بذاته.
هذه حقيقة بل ووصية كتابية برأيي لا جدل فيها، والسؤال المطروح في هذا المقام هو: كيف نصنع العدل؟ كيف نجد الطريق لتطبيق هذه الوصية بشكل عملي في حياتي كتابع للمسيح؟
من الجدير ذكره أن موضوع العدل ليس بمعزل عن الرحمة والتواضع، كما قرأنا في سفر النبي ميخا المذكور، ولذلك فدراسة هذا الموضوع يتطلب منا الرحمة وكذلك قلبا متواضعا واسعا وصلاة كي يعطينا الرب حكمة في تطبيق العدل على هذه المعمورة.
كي نحاول إيجاد ردود للأسئلة المطروحة لا بد أن نؤكد أن العدل أو العدالة هي إحدى الصفات التي يمنحها الروح القدس أو الله، فكما أن الله عادل ويحب العدل هو أيضا المحب وأوصى كثيرا بالمحبة حتى للعدو، كذلك الحال بالنسبة لبقية السمات التي ينعم الروح القدس بها على أولاد الله، كالسلام والفرح وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والتعفف (غلاطية 5: 22).
أمر آخر هام في هذا الصدد هو أن العدل الذي نتحدث عنه ليس من صنع الحكمة البشرية، وبالتالي تختلف الموازين في كلتا الحالتين، فمن الخطر كل الخطر أن نضع الخمرة الجديدة في زقاق عتيقة، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتُحفظ جميعا (متى 9: 17). من هنا لا يجوز أن نعرّف العدل أو الحق كما يعرّفه الانسان الطبيعي الذي لا يعرف الله، وإلا فسنجد أنفسنا في نفس قالب الموازين البشرية ومؤسسات حقوق الإنسان، والتي شغلها الشاغل هو تحرير الناس من الظلم والعبودية وحمايتهم من خرق حقوق الإنسان والاستعمار والاحتلال ومنحهم المساواة كباقي الناس. طبعا لا نقول إن هذه الأهداف ليست سامية، لا بل نؤكد أنها في غاية من الأهمية وصلاتنا أن هذه المؤسسات تستمر لدفع عربة الحماية من الظلم والاستبداد ورفع شأن المظلومين قدما إلى الأمام.
مثال على ذلك يمكن أن نراه في موضوع المحبة، والذي لا يقل أهمية عن موضوع العدل، فالموازين تختلف بين المحبة التي تكلم عنها الرب يسوع والمحبة التي هي بمقاييس بشرية، فالرب قال "لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك؟" (متى 5: 46)، كذلك ميّز الرب يسوع بين سلام العالم والسلام الذي يعطيه الرب (يوحنا 14: 27)، والمشترك بين كل هؤلاء – العدل والمحبة والسلام، هو أن الرب يعطي كل هؤلاء بالروح القدس، أولا في حياتنا نحن الذين قبلنا المسيح مخلصا والذي من المفترض أن تنعكس كل هذه السمات على الآخرين ممن حولنا وفي المجتمع.
تنويه آخر من الجدير ذكره هنا أنه مهما كانت أهمية صنع العدل، وهي حقا هامة بدرجة قصوى كما ذكرنا في بداية الكلام، لا يجوز إهمال بقية الوصايا التي نحن مُطالبون فيها والسمات التي من الواجب بل والمحتّم أن تتجلى في حياتنا كمسيحيين، وهي ما يسمى بثمر الروح القدس، والتي ينبغي أن تعمل بانسجام وتناغم معا للهدف الأسمى الذي هو بناء ملكوت الله على الأرض، هي المأمورية العظمى التي دُعينا فيها في الصلاة الربانية والتي أوصانا بها الرب قبيل صعوده (متى 28: 18 – 20).
إن "الزقاق القديمة" بكل ما يتعلق بصنع العدل، تلك التي تمليها حكمة البشر، تنتهي عند تحقيق العدل أو العدالة، إذا تحققت، و"الزقاق الجديدة" تسأل: هل تحقيق العدالة عند هذا الإنسان أو تلك المجموعة أو هذا الشعب، في حالة تحقيقها، أتى بالمجد للمسيح؟ هل أولئك الذين تحرروا من العبودية البشرية والاستعمار أو الاحتلال حصلوا على خلاص الرب الذي هو "غاية إيماننا"؟ (1 بط 1: 9). لا نقول هنا أن المناداة بالعدل والحق مشروطة بخلاص السامعين، فهذا عمل حتمي للروح القدس كما علمنا المسيح قائلا: "لا يقدر أحد أن يُقبل إلي إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو 6: 44)، ولكن حري بنا، عندما ننادي بالحق والعدل، ونسعى لأجله، أن نُدخل المسيح إلى المشهد، كيف لا وهو مصدر العدل لا بل هو الحق بذاته كما قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6)، وغير ذلك ستكون مناداتنا كأي جمعية حقوق إنسان التي أساسها حكمة البشر، على الرغم من وجود تشابهات كثيرة في المبادئ.
إن المناداة بالعدل دون إدخال المسيح للمشهد هو بمثابة "حق أخرس" كما يسميه صاحب المزمور (مزمور 58: 1)، فهو حق ولكن أخرس، لا يتكلم، أي لا قوة له أو منفعة، وهذا هو الحق الذي من "بني آدم" كما يتابع صاحب المزمور المذكور. يختلف الأمر عندما يكون قول الحق والسعي للعدل من قِبل إنسان سكن الحق في قلبه، فلا يسعه إلا أن ينادي بل ويصرخ بالحق الذي فيه ويسعى للعدل كما تعلّم كلمة الله. هذا يذكرنا بإرميا النبي الذي نادى بالحق والعدل طيلة أيامه، وما من مجيب، ولأهمية المقطع نقتبسه هنا:
"7. قد اقنعتني يا رب فاقتنعت والححت علي فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي 8. لأني كلما تكلمت صرخت. ناديت ظلم واغتصاب. لأن كلمة الرب صارت لي للعار وللسخرة كل النهار 9. فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الامساك ولم أستطع" (إرميا 20: 7-9).
فإرميا النبي عانى الظلم طيلة أيامه، وبالرغم من مناداته بالعدل وترك الظلم لم يجد آذانا صاغية، لا بل لاقى الضحك والاستهزاء والعار والسخرة "كل النهار" من السامعين، عندها وصل إلى نهاية نفسه وقرر أنه لن ينطق باسم الرب بعد، ولكن كانت هناك نار محرقة في قلبه التي غلبت قراره بالسكوت، ألا وهو إسم الرب، هو ما نسميه الروح القدس في أيامنا، وهو الدافع والمحفز الذي جعله يرتدع عن سكوته ويرجع لينادي وينطق باسم الرب وبالعدل والرجوع الى الله.
عندما ندرس موضوع العدل حري بنا أن نبحث الأمر بقلب متواضع، بالذات كون شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال القاسي الخاضع لقوانين عنصرية وظالمة. نعم – الأمر محزن ومؤلم، والسؤال كيف أتعامل مع هذا الأمر كوني مسيحيا كما علمنا المعلم والسيد. علينا إيجاد المعادلة التي تجعلنا نصنع العدل وننادي فيه، نظريا وعمليا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وبينما نحن ننادي بالحق والعدل، الذي هو المسيح، نسعى للمأمورية التي دُعينا فيها.