فعل الانسان الارادي هو نتيجة إشارات العقل الذي بدوره يتأثر بالعاطفة. ولكن لغة البرمجة في العقل في تعاملاته مع الغير هي طريقة تفكير معينة. فالعقل يستقبل المعلومات ويقرر بحسبها وعلى أساس قناعاته وفهمه وعاداته وتقييمه ونظرته للدنيا (1). ان هذه الأخيرة هي التي تحدد منحى التصرف، وأي توجه عليه أن يأخذ. ومن الممكن ان نستعرض أصناف مختلفة من النظرة للدنيا (مثل النظرة العلمية او الايمانية او السلبية أو الأصولية أو العصرية وغيرها)، ولكن سنتطرق هنا الى نوعين: المتفائل مقابل المتشائم.
ان كون شخص ما متشائم يجعل توجهه لأمر ما متحفظاً وشكاكاً وحذراً، فهو يتوقع الأسوأ ولا يعيش في الوهم. اما كونه متفائلاً فيجعل توجهه متوقِعاً للأفضل، فيصدّق الناس ويعمل بحسب ذلك متأملاً الأفضل وقد توخى النتيجة الحسنة.
اين يتوجب ان يهبط المؤمن المسيحي على المحور بين قطبي التشاؤم والتفاؤل؟
من جهة يعرف المؤمن على أساس الكتاب المقدس ان كل الناس خطاة وكلهم سقطوا (2). ان النتيجة الحتمية لذلك عنده هي انه لا يمكن ان نثق بالإنسان فهو خاطئ وبحكم كونه كذلك فهو منتج للخطيئة ومشتقاتها. والخطيئة خاطئة جداً (3) وتجبرك على توخي الحذر من سهامها الشريرة (4)، وهذا يقودنا الى القطب التشاؤمي.
من جهة أخرى فان الهنا إله رجاء وهو قريب من البشر ويغيّرهم. كما انه إله الخير وهو حافظ أولاده ويحفظهم وكل أمورهم ستؤول للخير (5). انه ايضاً إله الفرص الثانية والميل الآخر (6)
. إذا كانت الأمور ستؤول للخير- فعندها الا يتوجب ان تكون نظرتنا اقرب للقطب التفاؤلي؟
اعتقد ان الخط الوسط الذي ينادي الرب مؤمنيه اليه، هو حسب وصيته ان نكون "بسطاء كالحمائم وحكماء كالحيات" (متى 10: 16). الشطر الأول يوحي بالبساطة وهي وقود التفاؤل. انها المحبة المصدّقة لكل شيء، انها تسير "عالبركة" وهي تظن الخير والافضل بالناس بأمل وفرح وابتسامة. اما الشطر الثاني (الحكمة) فيوحي بالرزانة والهدوء والحذر وحساب النفقة والحرص والشك وتوقع السئ قبل الحسن وهي كلها غلاف جوي يدور في فلك التشاؤم.
ان المتفائل حتى النخاع سيصل حتماً الى حد السذاجة ويستغله الناس وسيصاب بخيبات أمل لا حصرَ لها. اذ مبدأ العالم اليوم هو " ان لم تكن ذئباً، اكلتك الذئاب" و" الانسان ذئب لاخيه الانسان" (7). الحذر واجب ومعرفة ما في الانسان من مكر ودهاء وغدر يجب الا يغيب عن بال المؤمن الذي يعرف ان الانسان خاطئ منذ ولادته.
اما المتشائم حتى النخاع فسيعيش منقبضاً شكاكاً متفحصاً لا يستمتع بلحظة سعادة عفوية. سيقضي أيامه ممحِصاً ومراقباً ومتحسِباً من كل اذى او ضرر او نتائج وخيمة ممكنة. بعد ان خلت حياته كلياً من البساطة وروح التفاؤل، فلقد حكم على نفسه بالانقباض ومصيرة التقوقع العاطفي والنفسي.
لقد أراد لنا الرب تلك الازدواجية ما بين البساطة الحمائمية والتفاؤل وبين الحكمة والحذر التشاؤمي- وقد تكون في جوهرها ما اسماه اميل حبيبي ابن حيفا والناصرة بعبقريته "المتشائل".
اننا نعيش هذه الازدواجية ايضاً في نوعية البشر من حولنا. فالرب -مصدر الامل- يرش في طريقنا في صحراء الحياة رذاذ من بصيص الأمل. انه يرّشها على هيئة أناس يعكسون صورة الله في مسيرتهم في الحياة. ان هؤلاء هم سبب للخير والسعادة والثقة والتفاؤل بغد أفضل. كما ان الرب يسمح بوجود أناس آخرين تتيقن انهم سبب للتشاؤم اذ هم يتصرفون بحسب قيم المنافسة الحامية وغير الرياضية في العالم. ان بعضهم قد يتحول الى ذئاب تنتظر الانقضاض على فريستها فتحولها في لحظة الى لقمة سائغة سهلة الابتلاع ويسيرة الهضم.
أي قطب يتوجب ان يطغى على المؤمن المسيحي في سياق بلادنا- وهي بلد صراع قومي دموي ينتج عنصرية وتنافر اثني مركّب؟
- من جهة- تبلورت في بلادنا ثقافة العنف الكلامي والجسدي والنفسي المهيمن ووسائل وتقنيات المنافسة والوسائل التي تبرر غاية الربح والنجاح بكل ثمن. هذه تطلب وجهة نظر "تشاؤمية". ان مواسم الحرب والحملات العسكرية والاحتكاكات الأمنية من جهة، وسراب السلام والكلام المعسول عن صلح من جهة أخرى- هي ايضاً تبرر نفس وجهة نظر. لا مكان لأحلام يقظة وأفكار عن غد وردي يعيش فيه الذئب مع الحمل بسلام ووئام كل تحت تينته وكرمته...(9)
- لكن من الجهة الثانية- المرء المسيحي هو أمل هذه البلاد. ما من أحد سواه سوف ينجح في الارتقاء فوق هامة العمالقة ليرى بارقة أمل على شكل بصيص نور في نفق الظلمة الحالكة للحرب والعنف والإرهاب والعنصرية والاحتلال والنهب والاغتصاب والعبودية والاستغلال. هذا النور سيبدد الظلمة (10). ان فيض النور هو لنور ليس من ذاته ولكنه انعكاس من النور الأعظم ولكنه ساطع وبهيج يشق سواد الليل بأنوار تضئ في العالم (11).
هل تكون انت ذلك النور؟ هل تكون متشائماً لكي تفهم ثقل الحياة في برية العالم من جهة ومتفائلاً من جهة أخرى لأنك تصبو نحو المثالي وتريد تغيير العالم ليسود نظام ملكوت ابنه وستخترق بنورك الهضاب والجبال والسهول والمعوقات؟
- القصد World View
- "الجميع اخطأوا وأعوزهم مجد الله" "الجميع زاغوا وفسدوا معا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد"، رومية 3: 12 و23.
- رومية 7: 13 ب
- افسس 6: 16
- رومية 8: 28
- متى 5: 41
- هذه مقولة لتوماس هوبز
- او باسم الرواية الكامل: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل
- ميخا 4: 3-4
- يوحنا 1: 5
- فيلبي 2: 15