"أَنتُم مِلحُ الأَرض، فإِذا فَسَدَ المِلْح، فأيُّ شَيءٍ يُمَلِّحُه؟ إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنَّ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس». «أَنتُم نورُ العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ عَلى جَبَل، ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بَل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. هكذا فليضيء نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالِحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات." متى ٥: ١٣-١٦
الموعظة على الجبل تشابه الوصايا العشر ففيها يقدم لنا الرب يسوع المسيح النصائح والتعليمات لكي ننال ملكوت الله. ان تطبيق هذه الوصايا يتمثل في العيش في بيئتنا كمجتمع (بالمعنى الحرفي لمجتمع)، أي ان نكون أمناء لملكوت الله في محيطنا من خلال انخراطنا التام في المجتمع والسعي لأجل تحقيق العدالة مع التحفظ من تعاليم هذا العالم مثل الشك بتعاليم السلطات والحكومات.
يحدد يسوع المسيح تعريف المجتمع الذي يتطلع اليه ويتوقعه من اتباعه في الآيات المذكورة أعلاه. نلاحظ ان المسيح يستخدم عدة تعريفات: "ملح" و "نور" و"اعمال صالحة". ما الذي يعنيه في كل من هذه المصطلحات؟ لكي نفهم معناها في أيامنا الحالية، علينا الرجوع قليلا الى السياق والى ظروف الحياة والمفاهيم في ذلك الوقت.
كانت البلاد في زمن المسيح تحت الحكم الروماني الذي شكل واقع المجتمع في ذاك الوقت أولا، وتحت ضغط الحضارة الهيلينية ثانيا والتي تختلف عن حضارة وثقافة المجتمع المتعارف عليها آنذاك. من هنا كان الشعب تحت ضغط الاحتلال من جهة وتحت حضارة لم تكن حضارته من جهة اخرى. وبالإضافة الى هذه الضغوطات ساد هناك الفساد كالذي انتشر في قصر الملك هيرودوس. من هنا تعددت طرق التجاوب مع هذه الضغوطات وتم ذلك من خلال مجموعات وأحزاب مثل: 1- الصدوقيين: الذين سعوا الى تحسين علاقاتهم مع السلطات لكي يحافظوا على منصبهم ومصالحهم. وبهذه الطريقة كانوا جزءاً من الضغط الحضاري والديني على المجتمع. ٢- الفريسيين: ظنوا انه بتديّنهم سيقدرون تخطي الضغوطات السائدة في المجتمع. لكن مبادئ الاخلاقيات والدين التي تمسكوا بها تم توجيه النقد لها من قبل المسيح، لان مبادئهم واساليبهم لا تتماشى مع الايمان ومع الشريعة والتوراة. ٣- الغيورين: ظنوا انهم من خلال العنف والسلاح سوف ينجحون في ثورتهم ضد الاحتلال الروماني، لكن معتقدهم هذا تسبب في خراب الهيكل الثاني في محاولة تحررهم ضد الرومان. ٤- الإسيين (سكان قمران): ظنت هذه المجموعة انه بإمكانها الحفاظ على الاخلاق والمبادئ من خلال الانعزال عن المجتمع. لذلك كانوا يعيشون في الصحراء في منطقة البحر الميت بعيداً عن الناس وبانعزال تام عن المدينة، أي اورشليم حيث هناك يكمن الفساد والضغط الديني والسياسي والحضاري. فعلاً قال المسيح انه يتوجب الا نخالط ونعيش مثل العالم، لكنه لم يقصد بطريقة الاسيين، فهو تحدى انعزالهم عن المجتمع. هل تذكّرك هذه المجموعات بفرق تتواجد في مجتمعنا اليوم؟ اذ قام المسيح بتحدي هذه المجموعات في أيامه، فهو بالأكيد يطالبنا ان نتحدى وجودهم اليوم، ويمكننا القيام بذلك من خلال ان نفهم مقاصده في المصطلحات التالية:
1) "الملح": لماذا يطلب منا ان نكون "ملح"؟ لما التركيز على "الملح"؟ المسيح تكلم عن فقدان الملح لملوحته، ما معنى هذا الكلام؟ ماذا قصد؟
الملح يمثل الحفاظ على الهوية وعلى دورنا؛ إذا فقد الملح ملوحته اذاً يفقد هويته، يصبح الملح كالرمل -لا أهمية له- والجميع يدوسه. قصد المسيح بهذا التشبيه هو ان نحافظ على قيمتنا وقيمة المجتمع ونحافظ على دعوتنا ليس من خلال الانعزال عن المجتمع ولكن بانخراطنا التام فيه. إذا تواجد الملح خارج استخداماته، فهو بدون فائدة، ولكن بتواجد المؤمن في المجتمع سيحمل مسؤولية ودور فعالين وهكذاً يكون ذي فائدة، وهكذا يكون للملح طعم.
إذ أصبح "الملح" رملاً، نصير مثل الذي يبني بيته على الرمل؛ وعندها لن يختلف بيتنا عن بيت الجاهل.
2) كيف نتمسك بهويتنا؟
يتم ذلك من خلال ان نكون "نور" وتلك وصية أخرى من يسوع المسيح. ان احدى شروط لمعان النور هو تواجد الظلمة لكي ينير فيها. وللأسف تسود في مجتمعنا ظلمة حالكة، وحينها يُختبر نورنا؛ فمن هنا يتحتم علينا ان نكشف ونبرز محبة الله ونعكس اعماله وسط ظلام المجتمع. يكمن معنى "النور" في ان نكون مجتمع يهتم ويعتني بالآخر كعائلته أي من كل نواحي احتياجات حياته ويشمل ذلك التحديات السياسية. بكلمات أخرى-تشبهنا بالنور يعني ان نتحدى النواحي والقضايا المسيئة التي نواجها مع غيرنا في مجتمعنا. اننا نتمثل بنور الله عندما نكشف عن أي ظلم وتمييز موجود في المجتمع.
3) مبدأ "الأعمال الصالحة": ويعني الاعتناء بالعائلة والفقراء وتحدي العنصرية والقوى الاقتصادية واي شيء سلبي يحيطنا. القيام بهذه الواجبات يحمل معاني وتحديات سياسية. فعند الاعتناء بالفقراء نتحدي النظام السياسي- أي ان الدولة لم تقم بواجبها ومسؤولياتها. ذات الامر يسري على تأسيس المؤسسات الطبية والمدارس والملاجئ للمعاقين وغيرها... ان جميعها هو بمثابة تحدي للنظام المفروض على المجتمع. اننا نعيش في مجتمع يحتاج الى شفاء من فساده والضغوطات التي يمر بها وأحيانا نتمكن من تحقيق الشفاء من خلال القيام ب-"عمل صالح" مثل تسليط "النور" لإظهار الحق الذي يعكس "هويتي" لذاتي والجماعة التي اعيش معها واعتني بها. ان قيامنا بالاعمال الصالحة هو خطوة أولى لسيادة العدل وهو يُسلط النور على الظلم ليظهر الحاجة اليه، وعندها علينا إيجاد طريقة حياة بديلة كمجتمع.
الكثير من الناس غير واعون لما يحصل من حولهم ولا يرون ظلام هذا العالم. لكن المظلوم يحتاج ان يُسمَع صوته. وواجب كل منا ان يسمع ذلك الصوت. كمؤمنين اتباع المسيح -نحن مختلفون عن العالم فمن هنا واجبنا ان نعمل الاعمال الصالحة التي تكشف الظلم القائم في المجتمع. ولقد منحنا الرب يسوع المسيح أمثلة عن الأشخاص والمجموعات التي تحدت المجتمع وبهذا كانت خارج نطاق المألوف، مثل: المرأة الزانية، السامري الصالح، حتى شفائه لابن الضابط الروماني وتحدي المسيح لدور المرأة في مجتمعه التقليدي...تحدى المسيح في حياته كل ما هو مألوف ومرفوض وتحدى الدين والقيم حتى يعطي بديل أخلاقي- وأعظمها تضحيته بذاته.
يعلّمنا الرب يسوع المسيح كيف نكون في المجتمع وكجزء من شعب فمن يتوجب التأكد ان نكون "ملح"، "نور" و"أعمال صالحة"، ففي النهاية السياسة هي فن التعايش الجماعي.