الإيمان والسياسة: سبعة اكتشافات في رحلة إيماني (الجزء الثاني)
القس يوحنا كتناشو
في حديثي مع عددٍ من الخدام الذين أحبهم وأثمّنُ رأيَهم اكتشفتُ أولا أنني أفهمُ المصطلحَ سياسة بطريقةٍ مختلفةٍ. يظن البعض أن السياسةَ هي البرامج الحزبية والتحزب والفئوية ويعتقد آخرون أن السياسةَ هي فنُ الكذبِ واخفاءُ الحقِ لأهدافٍ شخصيةٍ. ويَفْصِلُ الكثيـرُ من الخدامِ الإنجيليينَ بينَ السياسةِ والإيمانِ فلا يفكرون في الله أنه سياسيٌ أو في ابطال الإيمان السياسيين [1] السياسةُ ببساطةٍ هي القراراتُ الحكوميةُ وطرق التأثير عليها. فهل يرغب المسيحيون في التأثيرِ على قرارات الدولِ لتتوافق مع كلمة الله؟ استير كانت سياسية عندما أرادت تغيير قرار الملك بذبح اليهود. وأكثر أنبياء العهد القديم ارادوا التأثير على الحكومات فكانوا سياسيين. وحتى الله نفسه يتحدث عن القرارات الحكومية الصائبة ويريد التأثير عليها. الله سياسيٌ طاهرٌ من كل شر. أنظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى المزمور الثاني.
واكتشفتُ ثانيا أن العلاقةَ بين الإيمانِ والسياسةِ هي شأنٌ مسيحيٌ. أما جيرانُنا المسلمون واليهود فيربطونَ الإيمانَ بالسياسةِ. ويتحدثون بكل وضوحٍ عن الدولةِ الدينيةِ وعن دولةٍ إسلاميةٍ أو دولةٍ يهوديةٍ. ومن خلال عدسة الإيمان يشاهدون كلَ العالمِ بما يحويه من علاقاتٍ اجتماعيةٍ وتقاليدٍ وسياسةٍ. وهكذا نرى أن السؤالَ - هل هناك علاقة بين الإيمان والسياسة؟ - سؤالٌ مسيحيٌ وليس سؤالاً اسلامياً أو يهودياً. فنحنُ نعيشُ في مجتمعٍ يربطُ بينَ الإيمانِ والسياسةِ. وإن أردنا التفاعلَ مع هذا المجتمعِ بصورةٍ مؤثرةٍ علينا أن نفهمَ هذا الترابطَ ونقيّمَهُ بعدسةٍ مسيحيةٍ لا تتجاهلُ القضايا السياسيةِ [2]
ثالثا، اكتشفتُ أنَّ سؤالَنا عن علاقةِ الإيمانِ بالسياسةِ أو فصلهما هو شأنُ بعضُ المسيحيينَ في القرنِ الواحدِ والعشرين وليس سؤال المسيحيين عبـرَ العصورِ أو عبـرَ الطوائفِ. فمثلا، نجدُ دولة الفاتيكان تجمعُ بين الإيمان والسياسة ونجد أمثلةً أخرى في الدول التي تنادي بالمسيحية وتقاليدها ديناً رسمياً للدولة مثل اليونان وتونجا وغيرهما. علاوةً على ذلك، اتحدَ الإيمانُ بالسياسةِ في أسفارِ موسى الخمسة. فموسى شخصية سياسيةٌ ورجل إيمان نادى بالدولةِ الثيوقراطية التـي يكون اللهُ حاكمها. ورأينا اقتـران الإيمانِ بالسياسةِ في كل أسفار العهد القديم إذ لم تنفصل إدارة الشؤون الزمنية عن الشؤون الأبدية في حياة يوسف وداود وسليمان ودانيال وأستير وعزرا ونحميا وغيرهم من شخصيات العهد القديم. كان هؤلاء سياسيين وأيضا أبطالا في الإيمان. وارتبط الإيمانُ بالسياسةِ في المسيحيةِ بشكلٍ واضحٍ منذ القرنَ الرابعَ عندما أعلن قسطنطينُ أن المسيحيةَ ديانةُ الإمبراطوريةِ. وسادَ ارتباطُ الدينِ بالسياسةِ في صورةِ الدولةِ عند المسيحيين حولَ العالمِ حتى انفصال الدين عن السياسة في الثورة الفرنسية وثم في الولايات المتحدة.
رابعا، اكتشفتُ أن الكتابَ المقدس كُتب في إطارٍ سياسيٍ فلقد ارتبط خروجُ شعبِ اسرائيلَ من مصرَ بظروفٍ سياسيةٍ تتعلقُ بإذلالِ شعبٍ لآخر. وتتعددُ الأوضاعُ السياسيةِ في الكتاب المقدس فنـرى الحروبَ زمن يشوع ونشاهدُ رحلةَ بني اسرائيلَ وتعددَ الأنظمةِ السياسيةِ إذ تجدُهم تارةً مسيطرين وتارةً أخرى مشردين ومسبيين سواء أكان من الآشوريين أم البابليين. وارتبط موسى بالسياسة عندما تعامل مع فرعون، ونرى دورَ السياسة في سفر يشوع والقضاة والملوك والأنبياء. ثم نراها في حياة يسوع المسيح الذي وُلد مطارداً من هيـرودسَ وصار لاجئاً في مصرَ وعاش مهاجراً في الناصرة وحُوكم من الرومان وصُلب بتهمةٍ دينيةٍ وسياسيةٍ إذ أُتهمَ أنه ملكٌ ولا يوجد ملكٌ إلا قيصر.
خامسا، اكتشفتُ أن الكتاب المقدس لا يطلب مني عدم التدخل بشؤون الدولة بل بالعكس إذ يرشدني إلى التعامل مع الدولة بطريقة تتوافق مع فكر الرب. يطلب الكتاب المقدس أن نصلي من اجل جميع السياسيين إذ يقول:
فأطلب أول كل شيء، أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار، لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله (1 تيم 2: 1 – 3)
توضّح هذه الآيات اهتمام اتباع المسيح بالحياة الأرضية وليس بالحياة بعد الموت فقط. ويرغب رسول الأمم أن نعيش الآن وهنا حياةً مطمئنةً وهادئةً في تقوى واحتـرامٍ. ويطلب الصلاة من أجل حكامٍ وثنيين بهدف بركة أتباع المسيح في حياتهم على الأرض. يريد الرسولُ أن يؤثرَ على الحكومةِ وقرارتِها بواسطة الصلاة. وهكذا تصبح الصلاة سياسية [3] وهذا حسن ومقبول لدى الله. ويطلب الرسول بولس أن نقيّم ما يفعله السياسيون فنشكرُ الله على كلِ ما هو حسن ونبتهلُ أي نتشفعُ من أجل كل ما هو قبيح. من هنا نجد أن المؤمن يفكرُ في السياسة ويصلي في القضايا السياسيةِ ويقيّمها من منظور مسيحي ويفعل ذلك في إطار الكنيسة والعبادة. فالصلاة تخاطب العقل والضمير وتُبنى بالقناعات والطاعة لرب الكون. فلا أستطيع أن أصلي من أجل السياسيين وفي ذات الوقت امتنع عن مشاركة الموقف المسيحي من القضايا الأخلاقية التي تتعامل معها الحكومات.
سادساً، أكتشفتُ أن الكتابَ المقدس يطلبُ مني الخضوع لقوانين الدولة. يقول الرسولُ بطرس:
اخضعوا لكل ترتيب بشري من اجل الرب، إن كان للملك فكمن هو فوق الكل أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر، وللمدح لفاعلي الخير لأن هكذا هي مشيئة الله: أن تفعلوا الخير فتسكّتوا جهالة الناس الأغبياء كأحرار، وليس كالذين الحرية عندهم سُترةٌ للشر، بل كعبيد الله. أكرموا الجميع. احبوا الأخوة. خافوا الله. أكرموا الملك (1 بط 2: 13 – 17).
يربط الرسول بطرس الترتيبَ البشري من حكومات وسياسات بالفكر الديني إذ يقول "اخضعوا لكل ترتيب بشري من اجل الرب". لقد اتّهم الناسُ المسيحيين أنهم يرفضون قيصرَ بسبب قبولهم ليسوع كملكٍ. ويكتبُ لنا سفرُ أعمال الرسلِ هذا الاتهام إذ يقول: "إن هؤلاء الذين فتنوا المسكونة حضروا إلى ههنا أيضا. وقد قبلهم ياسون. وهؤلاء كلهم يعملون ضد أحكام قيصر قائلين: إنه يوجد ملك آخر: يسوع" (أع 17: 7). ويرتبط الخضوعُ من أجل الرب بدورِ السياسية أو الوالي في محاسبةِ فاعلي الشر ومكافئة فاعلي الخيـر. ويفترض الرسول بطرس أن الكنيسة من فاعلي الخيـر ومن الحكماء الذي يتحدّوا جهالة الشر بمواقفهم وأعمالهم. وهكذا يتحدث الرسولُ عن دورٍ مرئيٍ للكنيسة في فعل الخير وفي إكرام السياسيين الذين يتمسكون بالعدالة ويحاربون شرور المجتمع. للأسف فقدت كنيستنا اليوم دورها في إكرام السياسيين الذين يرضون قلب الله بموقف معين. ويمكننا أن نوجز حكمة الخضوع للسلطات بما يلي: نخضع من أجل الترتيب الإلهي، نخضع لكي نسكّت جهالة الناس. ويؤيد الرسول بولس هذا التوجه إذ يقول:
"لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه، لأنه خادم الله للصلاح! ولكن إن فعلت الشر فخف، لأنه لا يحمل السيف عبثا، إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يُخضع له، ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير (رو 13: 1 – 5).
يؤكد بولس أهميةَ الخضوع للقوانينِ والأنظمةِ التي تنشرُ العدالةَ والصلاحَ. علاوةً على ذلك، إن كان البعض، أمثال كالفن، يفهمُ أن بطرس يصفُ الوالي برسول الله (1 بط 2: 14) وإن كان أشعياء يصف الأمبراطور الوثني كورش بمسيح الرب (أش 45: 1) فإن بولس يصفه بخادم الله الذي يعاقب فاعلي الشر. ويشجع الرسول الخضوعَ للسلطة التي تنشر الصلاح لتجنب العقاب السياسي والقانوني وبسبب الضمير وبسبب الترتيب الإلهي. وهكذا يدعم الرسول دفع الضرائبِ وتسديد التزاماتنا المالية للدولة. فمن واجب الإنسان المسيحي أن يدفع الضرائب خاصة أن جزءا من الضرائب تستخدم لخدمة الفقيـر والمحتاج ولمنفعة البنية التحتية في البلد. بالرغم من ذلك علينا أن ندرك أن قول بولس محاط بأهمية المحبة سواء أكانت للأعداء (رو 12: 19 – 21) أم للأخوة (رو 13: 8 – 10). المحبة هي بديل الانتقام وهي المحفز لمقاومة الشر بالخير وهي تحوي كل الناموس، فمن أحب غيـره فقد أكمل الناموس لأن لا تزن ولا تقتل ولا تسرق ولا تشهد بالزور ولا تشته وأية وصية أخرى مجموعة في المحبة. فكيف نحب الدولة لا أن نخضع لها فحسب؟
سابعا، إن المحبة لا تنفصل عن العدالةِ والبـرِ والحقِ. لهذا عندما تخطئُ الدولةُ علينا أن نتحدى الشرَّ بالخيرِ. فعندما حبسَ الكهنةُ وجندُ الهيكل والصدوقيون بطرسَ ويوحنا بسبب مجاهرتهما بالإيمانِ بالرب يسوع المسيح هددوهما، أي أن الدولة هددت الكنيسة، أن يتوقفا عن العمل الكنسي الذي ينشرُ الإنجيل. أجاب الرسولان أنه ينبغي أن يطاعُ الله أكثرُ من الناس (أع 4: 19). وهنا نرى موقفاً يتحدى فيه الدينُ الدولة ويقف في وجهها. إن مسؤوليتنا أن نكون نورا وملحا أمام المجتمع وأن نتحدى كل شر بكلمة الله النقية الطاهرة. فإن وقعت الدولة في شر فعندئذ يجب أن تأخذ الكنيسة دورها النبوي كما فعل يوحنا المعمدان إذ وقف أمامَ الإنحلالَ الأخلاقي للقادة السياسيين وعارض زواج هيرودس من هيروديا امرأة أخيه (مت 14: 1 – 5) حتى خسر رأسه. ولم يكن يسوع دبلوماسيا بل نبويا. فوصف هيرودس الذي أراد أن يقتله بأنه ثعلبٌ مكارٌ معبـراً عن رأيه بقائد سياسي (لو 13: 32). ووقف المسيحُ أمام الفريسيين، وهم القادة الدينيين والسياسيين، ووصفهم بأنهم قبور مبيضة خارجها طاهر وداخلها مليء بالنجاسة (مت 23: 27 – 28) وعارض اصحاب النفوذ حتى حمّلوه صليب العار.
تطبيقات عملية لنا وتوصيات:
- يجب فهم القضايا السياسية وربطها بالقيم الأخلاقية من عدسةٍ مسيحية. فإن كان الحزبُ الحاكم يروّج الأجهاض أو قتل الرحمة أو الاحتلال أو زواج المثليين أو سلب أراضي الأبرياء أو أيديولوجية لا تتوافق مع حقوق الإنسان وكلمة الله فإننا يجب أن نتحدث وأن لا نصمت أمام الظلم. لنفعل كما فعل ناثان الذي وقف أمام داود حينما زنى مع بثشبع وقتل زوجها أوريا، ونفعل كما فعل إيليا عندما تحدى آخاب وإيزابل الذين سرقوا حقل نابوت اليزرعيلي. وهكذا أيضا تصرف العديد من المسيحيين عبـر العصور، فعلى سبيل المثال لا الحصر نستطيع قراءة حياة القس مارتن لوثر كينغ [4]
- يجب احترام قوانين الدولةِ والخضوع لها ما دامت لا تتعارض مع كلمة الله. فندفع الضرائب ونعمل بحسب قوانين العمل والسير والقوانين الأخرى. ولكن يجب عدم الاكتفاء بالخضوع بل الارتقاء إلى محبة الوطن والسعي إلى بناء السلام الاجتماعي الذي يتوافق مع كلمة الله.
- يجب أن نشدد على مسؤوليتنا الاجتماعية وعلى المواطنة الصالحة. فنحن ضمير الأمة. نحن الملح الاجتماعي الذي يحفظ الشعب من الفساد وبنور المسيح فينا نقود الشعب ليخرج من ظلام الحقد والعنصرية والقتل والعنف. هذه مسؤوليتنا ودعوتنا.
- انتمائنا الكنسي أعلى من انتمائنا القومي. فيجب أن نسعى إلى وحدة جسد المسيح ولا نحارب بعضنا بعضا.
من هنا أرى أنه يجبُ أن نتعاملَ مع القضايا السياسية دونَ أن نجعلَ الكنيسة حزباً سياسياً. ويجب أن نصلي أفكارَنا ومواقفنا ونحياها بطريقة تؤكد ربوبية المسيح في كل ما نفعل سواء عشنا بين أكثرية أسلامية أو أكثرية يهودية. ليحفظكم رب السياسية والإيمان ورب الكل.
[1]طبعا ثمة حالة استثنائية بين الانجيليين تربط بين الإيمان والسياسة لاسيما في الكنيسة المشيخية في مصر وفي أصوات أخرى في لبنان مثل كتاب القس غسان خلف. راجع غسان خلف، الله والسياسيون (بيروت، غسان خلف، 2011).
[2]هذا بالضبط ما فعلته وثيقة وقفة حق الفلسطينية (كايروس) وهي وثيقة متوفرة بعدة لغات على الانترنت بالموقع التالي: http://www.kairospalestine.ps/content/kairos-document
[3]للمزيد من الأمثلة العملية المتعلقة بتفاعل الصلاة مع السياسة راجع حنا كتناشو، تحدث/ي إليه (الناصرة، دار الكتاب المقدس، 2015).
[4]Clayborne Carson, The Autobiography of Martin Luther King, JR. (New York: Grand Central, 2001).