قال العرب قديماً : "أمر مبكياتك ، لا أمر مضحكاتك". ان في هذا القول صدقاً، اذ ينبغي ان نتيقّظ لما فيه الرزانة والجدية أكثر من الملهيات والمسليات المضحكة المرفّهة للنفس فحسب.
الوضع المتردي للعرب من الخليج الى شمال افريقيا من الناحية الثقافية والعلمية والأدبية وحتى الإنسانية، قَلَب المقولة فأصبحت "أمر مبكياتك"- تعني التباكي على الماضي ودفع ضريبة كلامية عن مآسيه ونكباته من جهة . أما -"أمر مضحكاتك" من الجهة الثانية فأصبحت غالبة وتتميز بالصبغة الاستهلاكية المستوردة من الغرب، سلعاً وثقافة.
لا ارفض التأثير الغربي بحد ذاته، فلدينا الكثير لنتعلمه من الغرب الذي سبقنا بسنة ضوئية. لكن يبدو أننا قبولنا لما يحدث هناك هو انتقائي ويتمحور حول الأمور الاستهلاكية فقط. كما اني لا ارفض طبعاً البرامج البهيجة التي افقدتها أجيال أبناء شعبنا لعقود طويلة من الحياة في ظروف نزاع وصراع. فلقد سئمنا النكد والحزن واليأس وهي من سمات العرب سكان هذا البلد اذ على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
ومن آخر تقليعات الغرب التي تبنيناها – ال-"بلاك فرايدي" (أي الجمعة السوداء) وهي يوم الجمعة الذي يلي عيد الشكر في أمريكا في الأسبوع الرابع لشهر تشرين ثاني. وقد سميت "سوداء" لأن الأسود يشير للرصيد الإيجابي بعكس "الأحمر" وهو تعبير للعجز المالي او الرصيد السالب، وقاكم الله شرّه. والبلاك فرايدي هذا يفتتح موسم المشتريات الميلادي الذي يستمر الى ما بعد الكريسماس.
ولا شك ان تبني مهرجان المشتريات اللانهائية في ذلك اليوم في اسواقنا في البلاد والشرق عامة كما موضات مستوردة أخرى، هي من علامات العَولمة وكوننا نعيش في عالم صغير يؤثر ما يحدث في أحد اطرافه على الجهات الأخرى.
ولا مجال ان نكتب في المجال دون ذكر زيف الحملات التجارية في شرقنا وحقيقة كون التخفيضات فيها بالغالب وهمية وتعتمد على "استهبال" المستهلك مقابل التخفيضات الحقيقية في الغرب.
ويوم "الجمعة الأسود" ليس يتيماً في الموضات الغربية المستوردة واغلبها ذات طابع استهلاكي بحت. فالفلانتيان هو يوم لمشتريات الهدايا والورد وارتياد المطاعم مع الصديقة والحبيبة والزوجة. اما عيد الميلاد فقد اصبح استهلاكياً بامتياز في شرقنا. فالكريسماس ماركت هو برنامج استهلاكي صرف وتصبح فترة العيد الممتدة من بداية كانون أول موسماً كاملاً من التبضع والقيام بالمشتريات من ملابس جديدة وزينة وهدايا وأكل وشرب وتزيين الشجرة ويشترك به القاصي والداني على نغمات "ليلة عيد" ورقصات بابا نويل. اما عيد رأس السنة فلقد أصبح على السن الناس "عيد السيلفستر" وبالذات ممن اتخذوا من تل ابيب ولندن ونيو يورك قبلة يصلون لها ويؤمنوها لأداء مناسك شرائعهم. فهو ايضاً اتخذ منحى مختلفاً ، فأصبحنا نعيّده بسهرات غالية الثمن لمغنين وفرق ووجبات طعام وشراب في فنادق برّاقة فخمة.
وبسبب ازمة القيم التي نعيشها، فإننا نستورد "الجمعة السوداء" بعد ان نقفز فوق "عيد الشكر" الذي يسبقه بيوم، لأنه لا يناسبنا. فللأسف أصبحت ممارسة الشكر الحقيقي الصادق نادرة وممارسته الشائعة هي فقط تملقاً وتزلفاً. كما نتبنى موسم الميلاد بأسلوبه الاستهلاكي فقط فيضيع فيه معنى ميلاد الرب يسوع. فيقف صاحب العيد جانباً كالغريب غير المدعو لعيده، بينما يلتهي من "يحتفلون" به بالزينة والمشتريات والحفلات. وبدل رأس سنة نقضيها بشكر الله على سنة مرت ومتأملين بالعبر منها ووضع الخطط والاحلام للسنة الجديدة- نغيّر اسم عيد رأس السنة لصالح سيلفستر (وهو بابا من القرن الرابع اعلنته الكنيسة الكاثوليكية قديساً وتزامن عيد القديس سيلفستر مع رأس السنة الميلادية فتبنى الناس اسم البابا المذكور لذات العيد وهم لا يعرفون عنه شيئاً) لنضمه الى "المضحكات" مرة اخرى.
ولكن للفعاليات والذكريات والموضات الغربية التي نتبناها تباعا بُعداً آخر هو البعد الحضاري. فاذا لم ننتبه للمد الغربي الاستهلاكي المستفحل فإننا سنفقد بسبب توغله بين ظهرانينا لمستنا الشرقية ولغتنا وحضارتنا وعاداتنا (الحميدة منها طبعاً فإننا نتوخى التخلص من الطالحة). اننا سنضيّعها على مذبح الانصهار في الحضارة العالمية -وهي بالأساس من الغرب المهيمن.
واحياناً كثيرة نعجب بالاستهلاك الغربي على الماركات العالمية والجودة ورخص البضائع فيها ونتناسى انها الوجه الجميل فقط للرأسمالية فنتغافل ان المنتجات تكون قد صُنعت بأيدي عمال في دول العالم الثالث الفقيرة دون ادنى شروط العمل والمعاش.
والتسوّق بحد ذاته ورغم الاغراء الذي يحمله في بلاك فرايدي او بوكسر دي او في فترات تنزيلات آخر الموسم، يدغدغ جوانب خفيه متنحية في نفوس البشر تنام كالمارد الذي ينتظر ايقاظه. انها الرغبة بالتملك وتجميع الأغراض والحصول على المزيد. انها تغطي احياناً فراغاً في النفس يستجدى اغراضاً لتملأه. واحياناً يلبي الاستهلاك المتطرف رغبة بالظهور واستغلال ما تم شراءه بثمن نفيس للتكبر على الاتراب الذين لا يقدرون شراءها بهذا المبلغ. او رغبة بشراء غرض بسعر زهيد للافتخار اذ نجحنا في اقتناص الفرصة في حملة تنزيلات غفل عنها اترابنا. وهكذا يصعّب التسوّق، ان زاد عن حده، تطوير صفات حثنا الرب يسوع ان نمتلكها. فلقد طلب من تلاميذه العيش بحياة الكفاية والشكر والصوم واغاثة الغير ونكران الذات. فمن اعتاد على العيش بإسراف كما يتجلى بالشراء والتسوق والتبضع فوق الطاقة والحاجة، سيستصعب حياة الكفاية اللائقة.
نجني اللهم من الجمعة السوداء ومثيلاتها وركز نظري على الجمعة العظيمة التي لا مثيل لها.