هل إعلان القدس (أورشليم) عاصمة لدولة إسرائيل من قبل الرئيس الأمريكي ترامب له علاقة بأية نبوءة في الكتاب المقدس؟ لا بد أن الكثيرين من مفسرّي النظرية التدبيرية وغيرهم من مؤيدي الصهيونية المسيحية، سرّوا بإعلان الرئيس الأمريكي ترامب القدس (أورشليم) عاصمة لدولة إسرائيل، ضارباً عرض الحائط بكل القرارات الدولية التي تؤكد أن القدس الشرقية هي تحت الاحتلال الاسرائيلي، وأنه لا يجوز القيام بأي تغيير قبل الوصول إلى حل نهائي متفق عليه بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية.
إذا بحثنا في الكتاب المقدس لن نجد أية نبوءة تتحدث عن مدينة القدس أو أورشليم في زمننا الحالي. وكل ما يعتمد عليه بعض المفسرين هو مجرّد افتراضات خاطئة استنتجوها من بعض الآيات. ولعلّ أهمها هو تفسيرهم الخاص لنبوءة السبعين اسبوعاً في سفر النبي دانيال الأصحاح التاسع. حيث افترضوا خطأ أن الأسبوع السبعين (دانيال 9: 27) «ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة...» لم يتم، وأنه سيتحقق في المستقبل عندما يُعاد بناء الهيكل في القدس، وتُقدّم الذبائح فيه. ثم افترضوا خطأ أيضاً أن النبوءة (دانيال 9: 26) «وشعب رئيس آتٍ يُخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حربٌ وخِربٌ قُضي بها» التي تحدثت عن خراب أورشليم والهيكل على يد الرئيس الآتي الروماني، ستتم أيضاً خلال هذا الأسبوع الأخير.
وللإيضاح أقول إن الأسبوع السبعين الأخير قد تمّ بمجيء الرب يسوع المسيح إلى عالمنا، وإتمامه لعمل االفداء وإبطاله للذبيحة والتقدمة في وسط الأسبوع (ثلاث سنوات ونصف) وبدئه عهداً جديداً. أما نبوءة خراب أورشليم والهيكل، فقد تمّت أيضاً على يد القائد الروماني تيطس عام 70 ميلادية، الذي أصبح امبرطوراً فيما بعد. وهو الأمر الذي تنبأ عنه الرب يسوع المسيح نفسه (متّى 24، مرقس 13، لوقا 21). ففي العدد 15 من بشارة متّى نقرأ: « فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدّس. ليفهم القارئ». ثم تحدّث المسيح عن الضيق العظيم الذي سيحصل في تلك الأيام «لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون»(عدد20). وهذا كله قد تمّ بمحاصرة القائد الروماني تيطس لأورشليم، ثم دخولها عنوة، وارتكابه للمجازر العديدة، وحرقه للهيكل حتى لم يعد هناك حجر على حجر لم يُنقض كما تنبأ الرب يسوع. وكانت فعلاً أيام ضيق عظيم جداً، كتب عنها المؤرخ اليهودي يوسيفوس. أما في بشارة لوقا فنقرأ عن نفس الحدث: «ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش فاعلموا أنه قد اقترب خرابها» (لوقا20:21). لقد كانت تلك الأحداث دينونة الله على هذا الشعب الذي رفض المسيح ملكه ومخلّصه الذي أتى.
والجدير بالذكر أن الرب يسوع المسيح أكّد قائلاً: «الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتّى يكون هذا كله» (متّى34:24). وهو الذي حصل بالضبط، إذ لم يمضِ ذلك الجيل الذي كان موجوداً في أيام المسيح، حتى تحققت نبوءة المسيح بخراب أورشليم ودمار الهيكل. فماذا يقول أولئك المفسرون؟ يقرّون أن هذا الحدث قد تمّ في هجوم تيطس على أورشليم عام 70 ميلادية، لكنهم يقولون في افتراض خاطئ أن التحقق الكامل والمقصود بهذه النبوءة سيتكرر في الأسبوع السبعين الأخير، أي خلال سبع سنوات. ولكي يتحقق هذا الافتراض الخاطئ لا بد برأيهم أن يتم أولاً إعادة بناء الهيكل، وتقديم الذبائح فيه. ولهذا يُعتبر بالنسبة لهم إعلان مدينة القدس (اورشليم) عاصمة لدولة إسرائيل هو تمهيد لبناء الهيكل. والسؤال الآن: لو نفرض جدلاً أنه تمت إعادة بناء الهيكل، فهل سيقبل الله الذبائح التي ستُقدّم؟ وماذا عن ذبيحة المسيح الكفارية الأبدية الكاملة؟ وماذا عن إبطال كل الطقوس ونظام الذبائح الموسوي التي أكدها لنا العهد الجديد، لاسيما في سفر العبرانيين؟ ولكي لا يقع أولئك المفسرون في معضلة كبيرة، يقولون لنا في افتراض خاطئ آخر: يجب أن تؤخذ الكنيسة أولا إلى السماء، لكي يعود الله ويتعامل مع الشعب اليهودي في فترة خاصة به، ولهذا سيقبل الله الذبائح التي ستقدّم له. وعندها يحقق الله مواعيده لشعب إسرائيل، وعلى رأسها موعد الملكوت.
نعود إلى مدينة أورشليم أو القدس، فسنجد على العكس تماماً مما يعلّم أولئك المفسرون. فلقد أكّد المسيح للمرأة السامرية: « يا امرأة صدّقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب... ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (بشارة يوحنّا21:4، 23-24). واضح هنا من حديث الرب يسوع المسيح إلى المرأة السامرية، أن موضوع مدينة أورشليم والهيكل، قد انتهيا بالكلية، وأن العبادة الحقيقية لله تكون بالروح والحق. وعلينا أن نلاحظ أمراً مهماً آخر، أن نبوءة دانيال عندما تحدّثت عن أورشليم قالت: «وإلى النهاية حربٌ وخِربٌ قُضي بها». أي أنه بعد تدمير القائد الروماني تيطس لمدينة أورشليم والهيكل، لن تعود وتقوم قائمة لمدينة أورشليم، إذ قُضي عليها «إلى النهاية حربٌ وخِربٌ». فكيف يستقيم هذا الأمر مع ادعاء البعض أن أورشليم والهيكل سيعودان إلى مركز الصدارة بالنسبة لعلاقة الله مع شعب إسرائيل؟
أما عن موضوع اتمام الله لوعوده القديمة لشعب إسرائيل، فلقد تمّت كلها بمجيء الرب يسوع المسيح إلى عالمنا وبدئه لملكوت الله. وشرح لنا الرسل الاوائل في عظاتهم بسفر أعمال الرسل، وكتاباتهم من خلال الرسائل كيف أتم الله مواعيده بواسطة الرب يسوع المسيح. لا بل أكدوا لنا أن كل مواعيد ورموز العهد القديم من أرض وهيكل وذبائح قد تمّت كلّها عن طريق موت المسيح الكقاري على الصليب، وقيامته الظافرة من بين الأموات، وجلوسه عن يمين عرش العظمة في السماء، كملك في مركز القوة والسلطان. ولعلّ ابلغ ما أختم به هو إجابة المسيح لتلميذي عمواس، عندما أخبروه عن المسيح قائلين: «كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكّامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنّا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل...». فأجابهم المسيح قائلاً: «أيها الغبيّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلّم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب» (بشارة لوقا20:24، 25-27). أجل لقد تمّم المسيح كل مواعيد الله، وفدى إسرائيل الفداء الحقيقي، وهو الآن يملك من السماء على شعبه.
نستنتج من كل هذا أن موضوع إعلان القدس، أورشليم، عاصمة لدولة إسرائيل من قبل الرئيس الأمريكي ترامب لا علاقة له البتة بأية نبوءة في الكتاب المقدس. وهو موضوع سياسي بحت لا علاقة له بالكتاب المقدس. وهنا يؤسفني ويؤلمني أن أشاهد الكثيرين من الانجيليين المسيحيين في الولايات المتحدة وقد انجرفوا مع أفكار التيار المسيحي الصهيوني، الذي يُخالف وبشكل واضح كلمة الله كما أُعلنت لنا في الكتاب المقدس.