يبدأ سفرُ أيوب بالحديث عن رجلٍ تقي. ربما هو من نسل عيسو واسمه بحسب التقاليد القديمة يوباب. ويخبرنا البابا شنوده أنه عاش بعد نوح وقبل ابراهيم وأنه كان كاهن أسرته وأنه عاش 140 عاما بعد التجربة (أيوب 42: 16) فشابه الذين عاشوا قبل ابراهيم. ولا يتحدث السفر عن أرضِ إسرائيل أو عن العهد الموسوي أو حتى عن إبراهيم ولكنه يتحدث عن إنسان تقي أرضى الله. وربما هو عربي مثله مثل زوجته الثانية بحسب شهادة النسخة السبعينية وبحسب أصدقاءه أصحاب الاسماء العربية. على أي حال، هو تقي يحيد عن الشر. وهو كاهن أسرته المكونه من زوجه واحدة وسبعة بنين وثلاث بنات. وهو غني جدا إذ يملك آلاف الغنم والجمال والأتن والبقر حتى أنه دُعي "أعظم كل بني المشرق". وكان أيوب إنسانا مصليا وكاهنا نشيطا يقدم الذبائح عن أولاده بحسب عددهم (أي 1: 5) حتى أنه كان يقدم الذبائح عن الاخطاء المحتمله وليس فقط عن الأخطاء التي حصلت. وكان يفعل هكذا كل الأيام.
كان أيوب قائدا عظيما فوصف حاله بالكلمات التالية: "حين كنت أخرج إلى الباب في القرية وأهيئ في الساحة مجلسي، رآني الغلمان فاختبأوا، والاشياخ قاموا ووقفوا، العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أيديهم على أفواههم. صوت الشرفاء اختفى، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم لأن الأذن سمعت فطوبتني، والعين رأت فشهدت لي، لأني أنقذت المسكن المستغيث واليتيم ولا معين له. بركة الهالك حلت علي، وجعلت قلب الأرملة يُسر. لبست البـر فكساني كجبة وعمامة كان عدلي. كنت عيونا للعمي وأرجلا للعُرج، أبٌ أنا للفقراء، ودعوى لم أعرفها فحصت عنها. هشمت أضراس الظالم ومن بين أسنانه خطفت الفريسة (أيوب 29: 7 – 17). ووصفه الرب قائلا: ليس مثله في الأرض. هو رجل مستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر (أيوب 1: 8).
ولكن الأمور لا تسير دائما كما نريد ولا ينجو حتى الأبرار من مشاكل وهموم الحياة. فكيف نتعامل مع المشاكل وكيف نفهم علاقة البار بالله وسط الألم والعذاب لاسيما أنه عذاب لا يستحقه؟ قبل أن نخوض في هذه الأسئلة المهمة، دعونا نسرد ما حصل لأيوب.
سمح الله للشيطان أن يبسط يده ويمس ممتلكات أيوب وأسرته. فخطط الشيطان المصيبة ليكون تأثيرها كبيـراً. لم يحدد الله تفاصيل الامتحان ولكنه حدد حدود الامتحان. قرر الشيطان أن يجعل التفاصيل قاسية ودون رحمة وفي نفس اليوم. فجاء الرسول الأول ليُعلم أيوب أن السبئيين سلبوا كل بقره، وبينما هو يتكلم جاء الرسول الثاني ليخبـره أن نارَ السماء أحرقت كل غنمه، وقبل أن يفرغ من الكلام جاء رسول ثالث ليخبره أن الكلدانيين سلبوا كل جماله. ثمَّ وكأننا في فيلم رُعب حقيقي، طفح الكيل حينما جاء الرسول الرابع ليخبره أن الرياح الشديدة صدمت بيت الأخ الأكبر وقتلت جميع ابنائه وبناته. لا أعلم من منا يستطيع أن يتحمل كل هذا. من منا يتمسك بإيمانه وسط ظروف مشابهة.
علم أيوب أن السبيئين والكلدانيين ليسوا المسبب الرئيسي. فهو تحت حماية الإله الذي يعبده باستمرار. فلماذا يفعل الله هذا الأمر؟ لقد كان أيوب رجلا تقيا يتفوق بتقواه على كل بني عصره. ففي ضوء كل هذا الألم، قال أيوب: عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركا (أيوب 1: 21). أدرك أيوب أن بركاته هي من الله وأن العلي هو الذي أخذها. ولم يخطئ أو ينسب جهالة لكلي الحكمة والقدرة.
لا نعلم الفترة الزمنية التي مرت بين الامتحان الأول والامتحان الثاني إلا أننا نعلم أن الشيطان نقاق كالضفدع. فيلح ويعيد التجربة بالرغم من فشله. لقد قال لله: "ابسط يدك الآن ومس كل ما له، فإنه في وجهك يُجدف عليك" (أيوب 1: 11) ولكن أيوب لم ينسب جهالة لله. ففشل الشيطان في أول جولة. للأسف لا تيأس الشياطينُ من تكرار المحاولات. وسمح الله للشيطان أن يمتحن أيوب مرة ثانية ويجلب عليه الأمراض دون سلب حياته. وكعادته قرر الشيطان أن يجلب أسوأ ما عنده إذ أراد إهانة أيوب بصورة مرئية والقضاء عليه بأسرع ما يمكن. فضربه بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته. وحرَّض زوجته، بعد أن خسر كل عائلته، على تحدي الله. فقالت له: بارك الله ومت (أيوب 2: 9). وفي ترجمات أخرى، نقرأ الآية كما يلي: جدّف على الله ومت. ولكن أيوب قال لها: "تتكلمين كإحدى الجاهلات! أالخيـر نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟" (أيوب 2: 10). وهكذا تفوّق أيوب في هذا الموقف على أبينا آدم فرفض مشورة امرأته عندما نصحته بعمل يبعده عن الله. ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس. ومرت الأيام وسمع أصحاب أيوب بالشر الذي أصابه فجاءوا ليعزوه ويرثوه. وبكوا ومزقوا ثيابهم وذروا رمادا على رؤوسهم كعادات تلك الأيام. ثم قعدوا سبعة أيام دوم كلام. فماذا نقول أمام هذا المُصاب وهذه الكوارث. كانت أيامُ الانتظار أيامَ امتحان وتفكير واكتئاب مستمر. وهكذا وصل أيوب إلى كآبة عظيمة جدا فطلب الموت وتمنى لو لم يولد (أيوب 3: 1 – 25). ولا أستطيع أن ألومه. وهكذا بدأت سلسلة ردود الأفعال في سفر أيوب. سنتعامل مع هذه الردود في مقال قادم.