بينما يوشك العام على نهايته، يلتهي الناس بالاحتفالات بهذه المناسبة ويقدم الناس التبريكات والامنيات. انها تأتي على شكل اقوال انشائية عامة تتكرر وندر ما هو أصيل وخاص ومبتكر. ولقد أصبحت اغلب التبريكات والامنيات اليوم الكترونية وقد تأخذ شكل صورة يتناقلها الأصدقاء بواسطة الهاتف الذكي او فيديو معبر او اغنية لافتة.
لكن هل من وقفة حقيقية في نهاية العام لاستخلاص العبر مما سبق وللتخطيط لما هو آتٍ؟
ليس في الاحتفال والتبريكات بحد ذاتهما أي خطأ- طبعاً إذا تجنبنا التكرار الميكانيكي للمعايدات والتصقنا بما هو حقيقي واصيل وتجنبنا الاسراف ومظاهر البطر والمبالغة والصرف فوق الطاقة في الاحتفالات. لكن المناسبة اصبحت فرصة سانحة وهامة للتقييم والنظر للأمام، اذ لا يمكن السعي لمستقبل أفضل والى التقدم والنجاح دون ادراك الماضي. فاستخلاص العبر الشخصي يتم بشكل عيني: من تجارب الماضي- لكي يتم استنساخها اذا كانت ايجابية (ربما بشكل مختلف للأفضل قليلا)، او الامتناع عنها في حال كونها سلبية. لكن استخلاص العبر واتخاذ القرارات الشخصية للسنة الجديدة، يتطلب رؤية صادقة لأحداث الماضي وبعدها لمحاسبة النفس في الطريق لتصحيح الفائت واتخاذ التصميمات والقرارات. اذ كيف ترى أمور الماضي بدقة وحق دون محاسبة للنفس لتبني على أساسها قرارات جديدة؟ فإذا بنينا قراراتنا المستقبلية على أساس نظرة غير صحيحة للماضي (لامتناعنا عن محاسبة النفس بصددها)، فستكون القرارات المستقبلية غير صحيحة هي الأخرى.
لكن اغلب الناس تستصعب محاسبة النفس في شؤون الحياة- لا في رأس السنة او غيرها.
ان نظام المحاسبة الشخصي العام معطوب من أساسه اذ يصطدم بالأنانية وحب النفس. فالخطأ هو حتماً من نصيب الآخر. والسبب في أي اخفاق او خلاف او خسارة او فشل هو دائماً في الآخر وليس بالإنسان نفسه. فالكمال والحق والصدق في طرفي يصطفون وانأى بنفسي عن الخطأ، أي خطأ.
كما ونلاحظ ازدياد ظاهرة انعدام المحاسبة الشخصية في مجتمعاتنا العربية عامة. ومن بين أسباب ذلك ان للعرب هوية وتاريخ يزيدان احتمالات رفض محاسبة النفس. ان صورة العربي السلبية عند غيره من الشعوب تتسبب عنده في عقلية دفاعية متقوقعة ورافضة لمحاسبة النفس. كما ان مجتمعاتنا العربية غير متأصلة في نظام المحاسبة في الشركات والهيئات والمكاتب الحكومية لطبيعة الأنظمة فيها. إذ أنّ نظام الواسطة في التعيينات ونظام الترقية على أساس عائلي او قبلي او طائفي ما زالت مهيمنة. ان كل ذلك يجعل الافراد يعيشون في عقلية ترفض محاسبة حقيقية على الأفعال.
ان المحاسبة تتطلب صدقاً مع الذات ولكن كيف يكون صادقاً مع نفسه من هو غير صادق مع الآخرين؟ ان مرد ذلك هو عدم أمان في النفس. فمن ترسخت هويته ومكانته- لم يخش محاسبة نفسه وحتى لو كان للأمر اسقاطات علنية.
لقد وضع الرب يسوع التوبة ومحاسبة النفس ومراجعتها والاعتراف كأعمدة رئيسية للعلاقة مع الله وأبغض مقابلها الاعتداد بالنفس والتشامخ والبر الذاتي. من هنا مدح الرب المساكين بالروح وادان تشامخ الروح عند الفريسيين. لقد رفض تكبر الفريسي في صلاته ذات البر الذاتي وقبل تواضع العشار الذي قرع على صدره معترفاً بحاجته للرحمة. بنعمته الغنية خفف الرب من وطأة محاسبة النفس على ما فيها من صعوبة عندما وضع مقابلها مفهوم الغفران والقبول والسير للميل الثاني. ان الرب يحب من يحاسب نفسه بصدق ويتعهد بتغيير طرقه فيبارك بداياته الجديدة.
هل نتسامى فوق التبريكات المنسوخة والمنقولة الجوفاء والعامة منها لنحاسب نفوسنا بصدق وامانة لكي نغيّر طرقنا ونجعل تصميمنا حقيقياً للعام الجديد؟