يثير كل مقال يحتوي عناصر ايجابية عن اليهود مشاعر رفض وغضب عند القراء العرب، ولا عجب في ذلك. فالصراع الاسرائيلي-العربي المحتدم وحالة الاحباط العربي من اي تسوية او حسم تغذي هذه المشاعر. ولكن لا يسع الدارس لتاريخ وظروف اليهود الا وان يقف مذهولا امام ما انجزه اليهود. فعددهم الكلي في العالم هو حوالي 17 مليون شخص تماما مثل عدد السكان في مالي او تشيلي او زامبيا .عدد اليهود في اسرائيل هو حوالي 6.5 مليون ويقطن عدد مشابه منهم في امريكا. ويسكن 1.5 مليون اضافيين في فرنسا وكندا وانجلترا والارجنتين وروسيا مجتمعين. اما الباقي فيتوزعون في ارجاء العالم. للمقارنة، عدد العرب في العالم 450 مليون اي 26 ضعفا عن اليهود. اما سكان الولايات المتحدة فهم حوالي عشرين ضعفا من عدد اليهود في العالم. ولا تتعدى نسبة اليهود 2% من سكان امريكا، اي تعادل نسبة المسيحيين في اسرائيل اذا ما شملنا المسيحيين من العرب ومن غير العرب سوية. وحصل 201 يهودي على جوائز نوبل خلال السنين اي حوالي 23% من مجمل الفائزين في الوقت الذي تصل نسبة اليهود من عدد سكان العالم الكلي الى 0.2% فقط. اي ان نسبة الحاصلين على جائزة نوبل من اليهود تزيد باكثر من 115 مرة من نسبتهم في العالم!
لست بصدد اطلاق نظريات المؤامرة الهشة عن بروتوكالات زعماء صهيون او غيرها لتفسير هذه الظاهرة ولا لاطلاق احكام غيبية حول "شعب الله الخاص" او حول "خاصيتهم" نظرا لتعامل الله معهم في آخر الايام قبيل عودته وانقضاء الدهر. ولعل من يستخدم مثل هذه التعليلات والتفسيرات يكرس بفعل ذلك تأخره عنهم. ولكن ما سافعله هو انني ساتطرق لبعض سماتهم المجتمعية التي جعلتهم بهذا التأثير، لعلنا نستفيد منها كشعب وككنيسة.
1-تشديدهم على الدراسة اينما حلوا. رأى اليهود ان احدى الطرق التي تساهم في تمكنهم وسطوتهم وامكانية ادارة دفة المجتمع الذي يتواجدون فيه هي عن طريق علمهم ودراستهم وثقافتهم وبالتالي تبوأ المواقع المؤثرة. لنأخذ مثلا امريكا- تجد اعدادهم الكبيرة بما يفوق نسبتهم في المرافق الرئيسية في السياسة والاعلام والقضاء وفي الجامعات والمهن الحرة.
من يتبوأ المناصب في السياسة يقرر منحى الدولة العام ويؤثر لصالح فئته ومصالحها .وهكذا فعل اليهود وليس صدفة ان هنري كيسنجر وزير الخارجية الضليع زمن الرئيس نيكسون يهودي ومثله مرشحي الرئاسة جو ليبرمان وبيرني ساندرز بالاضافة للمستشار الخاص للرئيس اليوم ونسيبه جيري كوشنير وغيرهم الكثير . وللموقع المؤثر في وسائل الاعلام اهمية ايضا اذ يشكل الاعلام الرأى العام وبتبوأ اليهود اماكن كهذه في الصحف وشبكات التفزيون عملوا على تكوين تعاطف مع المواضيع التي تهمهم محليا ودوليا. برز من بين عمالقة وسائل الاعلام في امريكا بعض الاسماء اليهودية اللامعة مثل لاري كينغ وتوماس فريدمان وولف بليتسر وبربارة وولترز ومايك ولاس وغيرهم الكثير.
اما القضاء فهو مركز للتأثير المجتمعي. ففض الخلافات بصورة قضائية يتم بواسطة تطبيق القانون كما يفسره القاضي. ويتم التفسير بحسب قيم القاضي وفهمه مما يؤثر على المواطنين. اما قضاة المحكمة العليا-فقراراتهم هي بمثابة قانون في حال لم يقدم القانون حلا وتفسيرهم ملزم للمحاكم الاخرى. ان ثلث قضاة المحكمة العليا في امريكا هو من اليهود مما يعبر عن ثقلهم وتأثيرهم الجم في المجال القضائي ايضا.
ويزيد تأثير اليهود في الجامعات كمحاضرين ورؤساء اقسام وكليات وهي مصانع قادة المجتمع وطليعة الاقتصاد والسياسة والمجتمع. فيوجهون طلابهم بحسب عقيدتهم وفهمهم وقيمهم.
2-ان العنصر الثاني الذي جعل اليهود مؤثرين وفعالين هو التفافهم حول رؤيا ومصير مشتركين وبالتالي جذر انتماءهم.
تجمع اليهود -متدينين كانوا ام لا- لقرون كثيرة حول ما يجمعهم. تجمعوا حول التورآه والتلمود والاعياد والسبت والمحن التي المت بهم والشوق للقدس.
هذا الالتفاف حافظ عليهم وجعلهم يهتمون بكل فرد منهم. وقد لاقى هذا الاهتمام بامان ورفاهية كل يهودي في كل بقاع الارض مأسسة بعد قيام دولة اسرائيل.
اترك للقارئ ان يطبق تجربة اليهود للتأثير على الحالة التي تعنيه. فالمبادئ هي نفسها:الاتفاف حول رؤيا مشتركة والتركيز على التعليم والدراسة كرافعة لمواقع مؤثرة.