كنّا قد ختمنا المقال الاول بوجوب إيجاد المعادلة الصحيحة ونقطة الاتزان الصائبة ما بين صنع العدل من جهة، ومن جهة اخرى السعي في المأمورية التي دعينا فيها، فإذا تعدينا هذه النقطة - نقطة التوازن، أو أضعناها، لوجدنا أنفسنا نتخبط ونتصارع بين ما تقوله كلمة الله وبين الواقع المليء بالتحديات الذي نعيشه.
يمكن تقسيم الصراع أو التحدي إلى شقين رئيسيين، الأول هو الصراع أو التحدي الذي قد ينتج بين ما تقول كلمة الله، أو القيم والحقائق الكتابية، وبين العادات والتقاليد المجتمعية التي نعيش فيها، والشق الآخر هو الصراع أو التحدي النابع مما تقوله كلمة الله من جهة وقوانين الدولة التي نعيش فيها من جهة أخرى. الصراع من النوع الأول متعلق كثيرا بموضوع الأخلاقيات المسيحية، بحيث يلزم كل مسيحي بلياقة التصرف بين ما يؤمن به بحسب ما تمليه كلمة الله وبين عادات وتقاليد المجتمع المتغيرة والمتطورة بتسارع كبير في الآونة الأخيرة بالذات، وهذا التحدي يزداد صعوبة كون الحقائق الكتابية – تعاليم الكتاب المقدس وقصصه وأحداثه، بما في ذلك تعاليم السيد المسيح، قد حدثت في عصور قديمة جدا، بحيث يتحتم على كل مسيحي ملتزم بتعاليم الكتاب إيجاد طريقة التصرف الصحيحة في مجتمع متغير، أو إيجاد ما أسميناه بنقطة التوازن الصحيحة.
الصراع من النوع الآخر هو أيضا تحد ليس بسهل، وغير خال من تعلقه بموضوع الأخلاقيات المذكور، بالذات في حالة وجود قوانين عنصرية تتعارض مع مبادئ وقيم الكتاب المقدس، بما في ذلك تعاليم السيد المسيح العادلة، والأصعب من ذلك وجود قوانين التي قد تتصادم بشكل مباشر مع القيم الكتابية وتعاليم السيد المسيح السامية، فماذا نختار.
التحدي يتفاقم بالذات عندما يعلمنا الكتاب بوجوب الخضوع للسلطات (أمثلة من العهد القديم: أرميا 27: 17، 40: 9، ومن العهد الجديد: رومية 13: 1، تيطس 3: 1 وغيرهم)، ونرى هذا الخضوع في حياة السيد المسيح، وكذلك عندما قال: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مرقس 12: 17)، وذلك بغض النظر فيما إذا كان السلطان عادلا أم ظالما، والدليل الأكبر على ذلك أن الحكم الروماني، الذي كان أيام المسيح، كان ظالما جدا، يميز الروماني على غير الروماني، بما في ذلك اليهود الذين رزحوا تحت هذا الحكم الظالم فترة طويلة وتمنوا لو أن يسوع المسيح يريحهم من هذا الحكم ويمنحهم الحرية، حتى تلاميذ المسيح الذين توقعوا أن يسوع سوف يحررهم من بطش الرومان ويملك على العرش الأرضي، ولكن شتان بين ما تمنوا – الخلاص الأرضي، وبين ما فعل المسيح – الخلاص من عبودية الخطية (أنظر مثلا من فضلك لوقا 24: 21، متى 20: 21، 21: 8-9 وغيرهم). أضف إلى كل ذلك أن المسيح نفسه كان الضحية الأكبر لهذا الظلم، إذ حُكم عليه بالموت وهو لم يفعل شيئا يستحق ذلك، حتى إن بيلاطس البنطي نفسه نطق بحكم البراءة ليسوع المسيح عندما قال "إني بريء من دم هذا البار" (متى 27: 24)، ونرى ذلك أيضا في نبوة إشعياء المعروفة عندما تنبأ قائلا: "ظُلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إشعياء 53: 7).
إن الظلم الذي عانى منه السيد المسيح ما هو إلا نوع من أنواع الاضطهاد، وهو الذي قال: "إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم" (يوحنا 15: 20)، من هنا أيضا يعلمنا المسيح أنه كما ظُلم هو كذلك نحن قد نلاقي الظلم، إن كان من العائلة المصغرة أو المجتمع أو من النظام الحاكم، فدوائر الظلم كثيرة ومتعددة، نذكر منها العائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الكنسية، ونلاحظ أن السيد المسيح قد لاقى شتى أنواع الظلم المذكورة وغيرها، بدءا بإخوته الذين لم يؤمنوا به (يوحنا 7: 5)، ثم بعائلته وأقاربه الذين قالوا عنه "مختل" (مرقس 3: 21)، والمجتمع الذي قاومه في كثير من الأحيان حتى محاولات لقتله في أكثر من فرصة واتهامهم إياه كونه ابن زنى (يوحنا 8: 37، 41، 59، لوقا 4: 29)، تكميلا بالظلم الاقتصادي كون يسوع فقيرا لدرجة أن "ليس له أين يسند رأسه" (متى 8: 20)، كذلك لاقى الظلم من النظام الحاكم الذي نراه في عدة صور، نذكر منها دفع الجزية كونه يهوديا (متى 17: 24-27)، حكم بيلاطس عليه بالصلب بالرغم من براءته (لوقا 23: 25)، وكيف ننسى خيانة أحد أقرب الناس إليه، من صلب أتباعه – يهوذا الذي أسلم يسوع للصلب.
من هنا، فقد واجه سيدنا ومثالنا الأعظم يسوع كل أنواع الظلم والاضطهاد من شتى شرائح الناس، الذين هم خليقته، وبدرجات عالية بل وقصوى من الظلم بل والعنف، الكلامي والجسدي، على الرغم من أنه ليس فقط لم يفعل شيئا يستحق ذلك، بل جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس (أعمال 10: 38)، وبالرغم من كل ذلك فقد انتصر المسيح وحقق المراد الذي أتى لأجله – فداء البشر خليقته من عبودية الخطية إلى حرية مجد أولاد الله لكل الذين قبلوه.
السؤال الهام بمكان هنا هو: لو واجهنا نحن، الذين قبلنا المسيح ربا ومخلصا على حياتنا، نفس أنواع الاضطهاد والظلم، بدرجاته المتفاوتة، هل سنحقق النصر في نهاية المطاف كما حققه سيدنا ومثالنا الأعظم يسوع، الذي ينبغي أن نتمثل به ونتبع خطواته ونحتذي حذوه.
الإجابة على ذلك تتعلق بكيفية تصرفنا حيال هذا الظلم ومواجهتنا له، الأمر الذي سنبحثه في الفصول القادمة.