صرح رسول الأمم بولس ان الصليب جهالة عند اليونانيين (1 كور 1 : 23)!
وما اشبه جيل عصرنا هذه الأيام باليونانيين!
اتخذ اليونانيون القدامى الحكمة نبراساً لهم فافتخروا بحكمة سقراط وارسطو وافلاطون. افتخروا بالسفسطائية وتمتعوا بالسؤال المعترض واجابته التي لا تخلو من سؤال مجابه للسائل. تناقشوا وأسرفوا في ذلك متمتعين بالعصف الفكري وشحذ الاذهان، حتى ولو لم يُجدِ النقاش نفعاً عملياً. أجرى اليونانيون الحوار وأبدعوا بالجدال واقاموا المناظرة ولم يبخلوا بالمفاكرة، حتى لو كانت سقيمة وعقيمة ولا ضير في ذلك. فالفلسفة وسبر غور اسرار الحياة جيدة بحد ذاتها اذ تطور الفكر وتتوصل لنتائج في أسئلة وجودية. وبخلاف ما قد يظنه البعض، فان المسيحية لا تخشى من الفلسفة فهي الحق وتؤمن ان الباحث بصدق عن الحق، سيجده. كما ولا تقصر يد المسيحية في إعطاء إجابات مقنعة على أسئلة الفلسفة.
اليونانيون القدامى اعتبروا أنفسهم حكماء واستخفوا بمن لم يَسِر في نهجهم. اعتبروا أنفسهم صفوة واعتبروا سواهم رعاعاً. وضعوا أنفسهم في مركز الكون بأنانية شديدة. الكل من عمل أيديهم...أو بالأحرى بما يتفتق به ذهنهم المتقد وكل ما غيره نافل. لم يتركوا مكاناً للإيمان بل خلصوا انه يتوجب ان نفهم ونستوعب كل شيء إذا ما شئنا قبوله.
أما نحن وفي عصرنا الحالي فقد اضحينا مثلهم فجعلنا الانسان الهاً. الكل يدور في فلكه ولأجله. نتمتع بالتمارين الفكرية والفلسفية ولا نعطي مكاناً للايمان او للغامض او للسر او اللغز.
وهكذا يستغرب اهل "الحكمة والمنطق" الصليب ويعتبرونه جهالة. فهم جهلوا كيف لسيد الكون ان يقبل الاتضاع وترك عرش السماء ليأتي لأرض الشقاء. يذهلون كيف يُوضَع "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" على خشبة ليصلب مع احقر المجرمين. لا تتسع مداركهم (التي من المفروض ان تكون عريضة وعميقة) لفهم كيف تكون النعمة هي المبدأ الذي يعمل الله بحسبه، وليس مبدأ الجريمة والعقاب او مبدأ العين بالعين والسن بالسن (وهو منطقي بحسب العقلية البشرية. انهم لا يفهمون كيف لإله ان يدفع ثمن الخطية والجريمة تجاهه نفسه. استصعبوا فهم كيف اننا نستغني بفقره وكيف انه ستكون لنا حياة بموته وخلاص بصلبه. لم يفهموا كيف أن بركة المسيح تحل بعد ان صار المسيح لعنة لأجلنا. وتعسر عليهم قبول وفهم كيف أن تبرير البشر يتم بإدانة يسوع. وقفوا حائرين امام عقيدة ان السلام والصلح مع الله يصيران بدمه، وبدمه فقط.
نقطة الانطلاق التي تأتي باهل "الحكمة" لهذا الاستغراب هي الأنا ومركزية الذات. انها تترجم لاعتداد بالنفس ولانتفاخ بحيث يرى هؤلاء ذواتهم في مركز العالم. وحيث انهم لا يفهمون تلك المبادئ الإلهية (رغم الدلائل الوفيرة على صحتها) فهم لا يقبلونها. لا مكان للايمان عندهم. ونظراً لذلك يستهزئون بالصليب ويعتبرونه جهالة، وهو ابعد ما يكون عن الجهالة. انه الحكمة الحقيقية بنفسها.
ومن المؤسف ان يلبس أناس هذه العقلية في زماننا فيرفضون الصليب ويعتبرونه جهالة ومرد ذلك في تشامخ الروح كقول الحكيم: "تأتي الكبرياء فيأتي الهوان ومع المتواضعين حكمة" (أمثال 11: 2). وبالتالي -عدم قبولهم لحقيقة ان هناك أمور لا يمكن فهمها وتتطلب ايماناً وثقة فحسب.
ربي، ائتنا في هذا الموسم المبارك ان نقبل كلامك الحق بتواضع الروح ولا ننظر للصليب كأنه جهالة فهو خطة الله للخلاص وهو العلامة الفارقة الحقيقية والواضحة لكل تاريخ الجنس البشري.