كان القسّ شكري موسى، المولود في عام 1870 في مدينة صفد في شمال فلسطين، الأداة البشريّة التي استخدمها الله لتأسيس كنيسة الناصرة المعمدانية في عام 1911.
استأجر شكري في الناصرة بيتًا متواضعًا وغرفة صغيرة إلى جواره، ليستخدمها كمقرّ للكنيسة. ومن الأشياء التي فعلها في البداية هناك أنه قام ببناء حوض كبير من الزِّنك يشبه حوض الحمام، ووضعه في الغرفة الصغيرة التي أصبحت لاحقًا مقرًّا للكنيسة المعمدانية ليقوم باستعماله في تعميد الذين يؤمنون بحسب العدد القائل: "من آمن واعتمد خلُص ومن لم يؤمن يُدن" (مرقس 16:16). وفي هذه الغرفة ابتدأ شكري يعقد اجتماعات، ويعظ فيها، ويقود الناس في التّرنيم، ويعزف على الأرغن. وبعد فترة قصيرة، انضمّ إلى الكنيسة ثلاثة أشخاص وقام بتعميدهم. كان الثلاثة من أفراد العائلة، وهم زوجته منيرة، ووالدته التي جاءت لتسكن معهم، وأخته العزباء عفيفة. بهذه المجموعة الصغيرة وبعض الزوّار، بدأت الاجتماعات تنتظم.
وكانت الطوائف المسيحية وقتها متطرفة ومُتشدّدة جدا في تعاملها بعضها مع بعض، ولعلّ هذه القصة الطريفة هي إحدى أفضل القصص التي تشرح وتُظهر التوتر الذي كان يسود بين الطوائف المختلفة وقتها.
تروي هيلدا وهي الابنة الوحيدة للقس شكري موسى، والتي كان لها أربعة إخوة أشقّاء، أنّ والدها كان متعصِّبًا للمعمدانيين، وكان يعارض بشدّة مشاركة أولاده في "جنّاز المسيح" في يوم الجمعة العظيمة في كنيسة الروم الأورثوذكس في الناصرة. وبعد سنين من الترّجي والتوسّل، سمح القسّ أخيرًا لابنته بالتّمتع بهذه المناسبة كغيرها من أترابها.
في "جنّاز المسيح" كان الأولاد والبنات يتمتعون بمشاهدة محفل رجال الدّين والشعب وهم يدورون حول الكنيسة يحملون نعشًا رمزيًّا للسيد المسيح ويرنّمون "أفاضت حاملات الطِّيب على القبر طيوبا، مبكرات جدًّا". وكان الأولاد يقضون وقتًا ممتعًا عند التقائهم معًا، ويفرحون بأكل السّمسميِّة والقراميش.
كان القسّ يحب الموسيقى ويجيد العزف على آلة العود، وقد تعلّق أولاده أيضا بحبّ الموسيقى. وذات يوم سمع شكري ابنته تغني رائعة شوبرت "إيف ماريا" Ave Maria فاستشاط غضبًا، وذكّر ابنته بأنه راعِ في كنيسة معمدانية، وهو يعلّم في الكنيسة أن الصّلاة يجب أن تكون للمسيح مباشرة، ولا يصحّ الصّلاة للعذراء القديسة مريم. لذلك، لا يعقل أن تقوم ابنته بترنيم كلمات هي نقيض ما يعلّم أبوها القسيس. لم يشفع في ابنته وقتئذ تعليلها له أنها لم تمعن النّظَر في معنى كلمات الترنيمة، وأنها أحبّت اللّحن فقط. على أنّ "الزعل" بين القسّ وابنته المراهقة لم يستمر طويلا. ففي صيف 1928 طلبت ابنته هيلدا أن يعمدها، فقام أبوها بتعميدها في جرن الكنيسة بالتّغطيس ثلاث مرات، وقال لها بعدها: "أرحِّب بك في عضويّة جسد الكنيسة".
وقد قام شكري موسى بوضع اساس متين للكنيسة المعمدانية في الناصرة وانضمت إلى عضوية الكنيسة عائلات كثيرة، ونذكر بعضًا من أفرادها: سعد شرّش وأولاده: جميل، توفيق، بشارة، أمين، ميخائيل، زبيدة، أمينه وحسني، ابن عمهم أوغسطين شرّش، باسيلا لبّس (أبو فايز)، ناصر دياب، الياس طبلج (أبو أسعد)، ناصر النّداف (أبو سمير) والأخت ليّا نويصر(أم كامل) وابنتها.
ولم تدم هذه السّعادة العائلية والنّجاح في الخدمة الكنسية طويلًا. ففي يوم حارّ من شهر آب من عام 1928، وبينما كان القسّ شكري يقوم بنزهة في أحضان الطبيعة، أصيب بالتهاب في الرئتين. وساءت حالته الصحيّة إلى أن رقد في الرّب في الثامن والعشرين من آب 1928، وهو ما يزال في قمّة عطائه. بعد وفاته، استمرت الكنيسة بالنمو بمؤازرة منيرة أرملة الرّاعي المؤسس التي استمرت بالعيش في الناصرة مع ابنتها هيلدا.
في عام 1933 تزوجت هيلدا من وديع سعيد ورزقا بعددٍ من الأولاد المُميّزين أشهرهم المُفكِّر الفلسطينيّ البروفيسور إدوارد سعيد الذي ذكر عائلة والدته في كثير من كتاباته ولا سيما في كتابه الشّهير، "خارج المكان"، الذي نجد فيه صورة لعرس والديه في الكنيسة المعمدانية في الناصرة.
تغيرت الطوائف المسيحية في السنوات الأخيرة وهي الآن اكثر انفتاحا، والمعمدانيون ايضا يشددون على حرية العبادة لكل شخص حسب ضميره ويرحبون بالتعاون والشركة بين الطوائف المختلفة.
كخطوة من جانبها، قررت الكنيسة المعمدانية المحلية في الناصرة قبل عدة سنوات عدم انتظار باقي الكنائس في الناصرة، وبالرغم من كونها كنيسة غربية ولكنها قررت بأن تحتفل بعيد الميلاد حسب التقويم الغربي وبعيد الفصح حسب التقويم الشرقي.
كل عام وانتم بخير