لم يُثر أصحاح من الجدل واختلاف الرأي بين المفسّرين كما أثار الأصحاح الرابع والعشرون من بشارة متّى. ولعلّ الالتباس الذي حصل يعود إلى الصيغة التي سجّل فيها البشير متّى الأسئلة التي طرحها التلاميذ على الرب يسوع المسيح حول نبوءته عن دمار الهيكل عندما قال: «الحق أقول لكم: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقضْ(1)». فسأله التلاميذ: «قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟(2)» بينما نجد في المقابل أن بشارتي مرقس ولوقا اشتركتا في طرح التلاميذ على المسيح السؤال التالي: «قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا؟ أو عندما يصير هذا(3)» أي متى سيتم دمار الهيكل؟ وما هي العلامة عندما يحصل هذا الأمر؟
من المعلوم أن البشير متّى خصّص كتابته لليهود، ولهذا استخدم العديد من التعابير التي يفهمها اليهود في أيامه. وبالنسبة للتلاميذ كان دمار الهيكل يعني نهاية العبادة اليهودية، ومجيء المسيح لإدانة هذا الشعب وبالتالي انقضاء الدهر اليهودي. لقد تصوّر التلاميذ أن المسيح سيُنهي العبادة في الهيكل، ويملك بالمجد في أورشليم ويقيم ملكوت الله. وهو ما عكسه البشير متّى من وراء تساؤلات التلاميذ التي صاغها وعبّر عنها بالقول: «قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟». وهنا لابد أن أؤكد على حقيقة هامة: من الواضح أن تساؤلات التلاميذ لم يكن المقصود منها المجيء الثاني للمسيح ولا انقضاء العالم -وهو الخطأ الذي وقع فيه الكثير من المفسرين(4)- بل حادثة دمار الهيكل ونتائجها الوخيمة على الشعب اليهودي. وهو ما أوضحه لنا البشيران مرقس ولوقا. وتأكيداً على ذلك أقول: إن تلاميذ المسيح كانوا يعيشون في فترة المجيء الأول للمسيح الذي لم يحقق أهدافه بعد، وكانوا يؤمنون كباقي اليهود بمجيء واحد للمسيح فقط وليس بمجيئين، فلماذا يتساءلون عن المجيء الثاني؟ أما فكرة المجيء الثاني للمسيح فقد اتضحت للتلاميذ بعد موت المسيح الكفاري على الصليب وقيامته الظافرة وصعوده حيّاً إلى السماء.
انطلاقاً من هذا المفهوم يصبح شرحنا للأصحاح الرابع والعشرين من بشارة متى سهلاً ومنسجماً مع ما كتبه أيضاً البشيران مرقس ولوقا في بشارتيهما. إن الموضوع يتعلّق بالأساس بهدم الهيكل، وإدانة الله لهذا الشعب الذي رفض مسيحه، وبالتالي انتهاء الدهر الذي كان قائماً آنذاك أي الدهر اليهودي. هذا الأمر هو ما أدركته الكنيسة طيلة العصور حتى مجيء المفسّر جون داربي في القرن التاسع عشر، وبدئه للتفسير التدبيري(5). ولديّ نسخة من كتاب «اتفاق البشيرين» الذي كتبه في أواخر القرن التاسع عشر القس سمعان كلهون، المرسل الأمريكي المشيخي في سوريا. وهو يعبّر في هذا الكتاب عن وجهة النظر المسيحية بالنسبة لهذا الموضوع التي سادت طيلة القرون الماضية.
لقد شرح المسيح بعدئذ للتلاميذ نبوءته فحدّثهم بما سيسبق هدم الهيكل من علامات وأزمات عليهم أن يلاحظوها(6). ثم أبلغهم عن حادثة هدم الهيكل نفسها، وشبّهها برجسة الخراب التي حدثت زمن المكابيين عام 167 قبل الميلاد: «فمتى نظرتم «رجسة الخراب» قائمة في المكان المقدّس(7)». مع العلم أن بشارة لوقا عبّرت عن هذا الأمر نفسه بالقول: «ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش، فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها(8)». وعندها تحدّث المسيح عن الضيق العظيم الذي سيحصل والذي «لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون(9)». وأسهب بالحديث عن الدينونة التي ستقع على هذا الشعب(10). ولكي يؤكد على رهبة هذا الحدث القادم وفظاعته، صوّره بلغة بليغة مليئة بالتشابيه والاستعارات والرموز التي نقرأ مثيلها في نبوءات العهد القديم، عندما كانت تتحدث عن دينونة بلاد معينة أو رئيس ما(11). «وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يُعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماوات تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء..(12)» لنلاحظ هنا قول الرب يسوع المسيح أنه للوقت بعد ضيق تلك الأيام، ستتم هذه المظاهر الكونية التي ذكرها، والتي تشير وترمز إلى دينونة الله لشعب إسرائيل، وانتهاء العلاقة معه. وختم المسيح نبوءته بالتأكيد أنه: «لا يمضي هذا الجيل حتّى يكون هذا كلّه(13)». أي الجيل الذي كان يعيش في زمن المسيح، ومدّة الجيل بحسب الكتاب المقدس هي 40 سنة.
من الواضح إذن أن المسيح كان يتنبأ عن حادثة خراب أورشليم ودمار الهيكل التي حصلت عام 70 ميلادية، عندما حاصر القائد الروماني تيطس أورشليم ثم دخلها عنوة ودمّر الهيكل بشكل كامل، وقتل مئات الآلاف من سكانها، وسبى الباقين، وحصل ضيق عظيم تماماً كما تنبأ المسيح. وهو ما سبق أن تنبأ عنه أيضاً النبي دانيال بالقول: «وشعب رئيس آت يُخرب المدينة والقُدس(14) (أي الهيكل)». وهكذا تمّت وخلال ذلك الجيل إدانة هذا الشعب وبشكل نهائي. إذن لم تكن هناك أية نبوءة عن رجسة خراب أخرى في الهيكل ستتم في المستقبل، أو عن ضيق عظيم سيحصل على شعب إسرائيل قبل مجيء الرب يسوع المسيح ثانية. ولهذا أقول: كما ذكرت سابقا إن الافتراض الذي افترضه الكثير من المفسّرين أن التلاميذ سألوا المسيح عن مجيئه الثاني وانقضاء العالم، هو افتراض خاطئ بالأساس. وبالتالي إن المسيح لم يتحدث في بشارة متّى 24 وبشارة مرقس 13 وبشارة لوقا 21 عمّا سيحصل قبل مجيئه الثاني. مع العلم أن الضيقة العظيمة التي تحدّث عنها سفر الرؤيا هي نفسها الضيقة العظيمة التي حصلت عام 70 ميلادية. أما القول أن النبوءة ستتكرر فهو افتراض خاطئ لا يوجد له أي دعم كتابي. وكذلك القول أن الله سيعود ويتعامل مع شعب إسرائيل في فترة الضيقة العظيمة بالمستقبل، استناداً على فرضيات ثبت أنها خاطئة(15)، هو قول لا أساس له في الكتاب المقدس، بعد أن أتى المسيح وأقام عهده الجديد، وأتمّ الخلاص للبشر أجمعين، وبدأ ملكوت الله.
هذا لا ينفي بالطبع أننا نستطيع أن نأخذ الصور والتشابيه والرموز التي قدّمها الرب يسوع المسيح عن مجيئه لإدانة شعب إسرائيل في القديم، للحديث عن مجيئه الثاني لدينونة هذا العالم. وأيضاً نستطيع أن نأخذ التحذيرات التي قدّمها المسيح لليهود في أيامه إلى الناس في عصرنا، عن أهمية الاستعداد لمجيء الرب يسوع المسيح ثانية.
- بشارة متّى 2:24ب.
- بشارة متّى 3:24ب.
- بشارة مرقس 4:13، بشارة لوقا 7:21.
- لقد افترض الكثيرون من المفسرين أن التلاميذ سألوا المسيح ثلاثة أسئلة وهي: قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك؟ وانقضاء الدهر؟ وقالوا إن السؤال الأول يتعلّق بنبوءة هدم الهيكل آنذاك. أما السؤالان الآخران فيتعلقان بالمجيء الثاني للرب يسوع المسيح ونهاية العالم. ونتيجة لافتراضهم الخاطئ هذا، بنوا تفسيرهم للأصحاح 24 من بشارة متّى.
- جون داربي 1800-1882، واعظ انكليزي، مؤسس جماعة الإخوة. وهو الذي بدأ التفسير التدبيري الذي يقسم التاريخ البشري إلى سبعة تدابير يتعامل فيها الله مع الإنسان. ويركز بشكل خاص على علاقة الله مع شعب إسرائيل ومواعيده له. ويعتبر التفسير التدبيري أن النبوءة في بشارة متّى 24 تتعلق بإسرائيل عند نهاية العالم، والضيق العظيم الذي سيحصل وقتئذ.
- بشارة متى 4:24-14.
- بشارة متّى 15:24.
- بشارة لوقا 20:21.
- بشارة متّى 21:24.
- بشارة متّى 16:24-28.
- امتلأت نبوءات العهد القديم بصور ورموز وتشابيه كدينونة الله لبابل في القديم: «هوذا يوم الرب قادم، قاسياً بسخط وحمو غضب، ليجعل الأرض خراباً ويبيد منها خطاتها. فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تُبرز نورها، تظلم الشمس عند طلوعها، والقمر لا يلمع بضوئه» (إشعياء 9:13-10). ودينونة الله لمصر «هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر(إشعياء 1:19). وحزقيال يتنبأ عن هلاك فرعون: «وعند إطفائي إياك أحجب السماوات، وأظلم نجومها وأُغشي الشمس بسحاب، والقمر لا يعطي ضوءه، وأُظلم فوقك كل أنوار السماء المنيرة..»(حزقيال 7:32-8).
- ... وحينئذ تظهر علامة ابن الانسان في السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير(بشارة متّى 29:24-30).
- بشارة متّى 34:24.
- سفر دانيال 26:9ب.
- من أهم هذه الفرضيات الخاطئة أنه بسبب رفض إسرائيل للرب يسوع المسيح في مجيئه الأول، فإن الله قد أجّل ملكوت الله إلى زمن آخر في المستقبل، يعود ويتعامل فيه مع شعب إسرائيل، وهو ما يطلقون عليه بتأجيل الملكوت. والفرضية الهامة الخاطئة الأخرى أن الأسبوع الأخير من نبوءة السبعين أسبوعاً في سفر النبي دانيال، ومدته سبع سنوات، لم يتم بعد، وسيتم عند نهاية العالم، في فترة خاصة بشعب إسرائيل. حيث تتم فيه النبوءة التي تحدّث عنها المسيح في بشارة متّى 24.