كثير ما يستخف المسيحيون بالحضارة السائدة فينسحبون وينعزلون عنها ويكوّنون حضارة ثانوية محصورة تدور بين اشباههم وفي فلك من يتماثل معهم ويفكر على شاكلتهم.
لقد انسحبوا لكي يحموا انفسهم وعائلاتهم من تلك الحضارة العامة التي ابتعدت عن تعاليم وروح الانجيل واصبح تأثيرها بحسب ظنهم كالسوس الذي ينخر في خشب صيرورة الحياة.
لكن هذا التوجه المنسحب انهزامي ولا يناسب المسيح اذ قال انه ستكون لنا غلبه ونصرة معه (1 كور 15: 57). لم يقصد فقط نصرته بعد انقضاء الدهر فحسب بل هي نصرة منذ اليوم. كما ان الانسحاب لا يوافق توجيهات الانجيل ان نكون نور في ظلمة العالم (متى 5: 14).
ان الحضارة والثقافة العامين تشملان مبادئ البشر وما يعتبرونه هاما. ان الحضارة المتبعة والسائدة اليوم في اغلب البلدان هي التي تكرّس المال والجمال والقوة. بالمقابل مبادئ الانجيل وقيمه مختلفة هي الخدمة (لوقا 22: 26) والتواضع (1 بط 5 :6) والمحبة (يوحنا 13: 35).
هل النتيجة الحتمية للفجوة بين الحضارة العامة ومبادئ شعب المسيح هي الانسحاب؟ اذا تركنا الحلبة لتيارات اخرى وانسحبنا الى قوقعتنا، فان قيم الثقافات البعيدة عن انجيل المسيح ستسود ونتائجها ستكون وبالاً على الفرد والمجتمعات والدول.
نتائج سيادة مبادئ وقيم الانجيل هي تشكيل اشخاص محبين لبلدهم وجيرانهم ومنتجين وفعالين. نتائجها الجماعية هي دول ديمقراطية تؤمن بقيمة الانسان وبحقوقه وبذات الوقت تنادي بالمسؤولية الفردية وتنفذها.ان نتائج الحضارة التي ينعدم فيها اثر الانجيل سيئة. احيانا قد يكون تأثير حضاري انجيلي قديم لا يستمر اليوم، تماما كالحال في اوروبا، لكنه اصبح من مركبات المجتمع ولم تتم ازالته اليوم. انعدام هذا التأثير الحضاري المؤسس في الانجيل هو كبت للحريات وغضب وخصام وانعدام للابداع وغيرها. هذه الاجواء الحضارية السلبية تقسي القلوب وتمنع تدفق نعمة الله وتصعب العيش في تلك البيئة. تصبح عندها المشاركة بالانجيل صعبة وقبوله اصعب. يزداد الفساد وشر الانسان ضد اخيه الانسان وفي هذه الدائرة المفرغة، يصبح الالتفات للانجيل وتعاليم المسيح صعبا.
من هنا يتوجب على اتباع المسيح ان يأخذوا دورهم في الحيز الحضاري العام واسماع صوتهم من وجهة نظر القيم والمبادئ الانجيلية الخالدة وتفعيل تأثيرهم في التربية والتعليم والسياسة وفي المسائل الجوهرية التي يتعاطى معها المجتمع. ويتوجب ايضا ان يساهموا في رفعة ورقي مجتماعتهم ليس في الجوهر فقط وانما بالاسلوب ايضا عن طريق الموسيقى والشعر والفن وهذا بالضبط ما حثنا عليه الرسول بولس اذ طالبنا بان نفتكر بكل ما حق وجليل وعادل وطاهر ومسر، كل ما صيته حسن (فيلبي 4: 8).
ان هذا التأثير والصوت الحضاري والثقافي الانجيلي سيسمو بمجتماعتنا فتصبح اكثر تحضراً ورقياً فتسود اجواء روحية تكرم مؤسس ملكوته على الارض وتسهل تتميم رسالتنا فيها.