واجهت المسيحية مشاكل داخلية وخارجية خلال تاريخها الطويل. وفي الفترة التي نحن بصددها، تمثلت التحديات الداخلية بالهرطقات والتعاليم الخاطئة، التي أحوجت الكنيسة أن تتعامل معها بصورة خاصة بواسطة الكتابات. كما وكان عليها في نفس الوقت أن تواجه المشكلة الخارجية التي تمثلت في الاضطهاد الواقع عليها من قبل الإمبراطورية الرومانية. وسأحاول في هذا المقال تقديم عرض تاريخي مختصر جداً للعلاقة المتوترة بين السلطات الرومانية والكنيسة التي تلخصت باضطهاد الدولة للكنيسة، ومن ثمَّ، الاسباب التي أدت لهذا التوتر وبالطبع رد فعل الكنيسة وموقفها.
الكنيسة والاضطهادكان المسيحيون في الدولة الرومانية، مواطنين مخلصين يحترمون السلطة المدنية، يقدمون للناس المثل الأعلى في سمو الأخلاق وحسن السيرة. ولم يكن لهم أي عِداء لأي شعب أو حكم في الدولة. أما الدولة فمن جهتها تجاهلت الكنيسة لفترة من الزمن، لكن هذا التجاهل لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما قام الحكام والسلطات باضطهاد الكنيسة اضطهاداً شديداً، وحاولوا خنقها بشتى الوسائل والطرق.
دام هذا الإضطهاد الأليم رسمياً ثلاثة قرون، لكنه لم يكن متواصلاً، ولم يمارس في كل أرجاء الإمبراطورية، فقد اختلفت سياسة الأباطرة والحكام مع المسيحيين باختلاف الأزمنة والأقطار والأحداث والمؤثرات الداخلية. لكن من الجدير بالذكر أنه حتى في الفترات الهادئة نسبياً، التي لم يُلاحَق فيها المسيحيين، كان على الوالي استجوابهم ومحاكمتهم، إن وشى أحد بهم. إن اعترفوا بأنهم مسيحيون وبقوا مصرين على "ذنبهم" تجري معاقبتهم، وإن أنكروا أو تراجعوا عن إيمانهم يُعفى عنهم.
بالاجمال عانت الكنيسة في هذه الفترة مُعاناة ليست بقليلة، واستشهد الكثير من المسيحيين، حتى أن مقولة ترتليان بأن "دماء المسيحيين هي بذار الكنيسة" صارت واقعاً مرعباً عاشه الكثير من أتباع المسيح. لكن الكنيسة استمرت بالنمو والانتشار بالرغم من الاضطهاد، بل وربما جزئياً بسبب تلك الاضطهادات، حتى نالت في نهاية الأمر حرية عبادتها الدينية تحت حكم الإمبراطور قسطنطين في بداية القرن الرابع.
أسباب الاضطهادمن الصعب الاشارة الى عامل معين كمسبب لاضطهاد الكنيسة، فالفترة التي نتكلم عنها طويلة نسبياً، وبالتأكيد تختلف مسببات الاضطهاد خلالها. وبما أن نظام الحكم في الامبراطورية الرومانية اختلطت فيه السياسة بالدين، يمكننا القول إن أسباب الاضطهاد كانت دينية سياسية واجتماعية، ويصعب في الكثير من الاوقات حتى الفصل بينها.
سياسياً: كان المسيحيون يُبدون الولاء الكامل للمسيح، فإذا خُيّروا بين المسيح وقيصر، يأتي قيصر في المكان الثاني. فاعتبر بعض القياصرة هذا الأمر بمثابة خيانة لهم. أضف إلى ذلك أن الإمبراطورية الرومانية سمحت لكل شخص أن يعتنق أي دين يريده بشرط أن يقوم بتقديم ذبيحة سنوية واحدة على الأقل تقدم على مذبح الآلهة تكريماً للإمبراطور. وكل من يقدم هذه الذبائح يُمنح شهادة خاصة اسمها Libellus تعفي حاملها من ملاحقات السلطة، ومن أبى تقديم الذبيحة أُلقي في السجن وعُذب حتى يُنكر معتقده أو يموت. واصطدمت هذه الممارسة، التي سعت لخلق وحدة سياسية-دينية متمثلة في عبادة الإمبراطور، بالرفض المسيحي، مما ساهم باتهامهم بأنهم خونة. أضف الى ذلك امتناع المسيحيين عن الخدمة في الجيش، الأمر الذي زاد الطين بلّة، ودعم اتهام المسيحيين بأنهم معادون للدولة ولقيصر.
دينياً: صادف عام 250م، السنة الألف لتأسيس روما. وحيث أن الإمبراطورية تعرضت في ذلك الوقت لسلسلة من الأوبئة والمجاعات والقلاقل السياسية، نسب الرأي العام تلك المشاكل إلى وجود المسيحية وانتشارها، وغضب الآلهة بسبب ترك هؤلاء الأشخاص عبادتها. وبمعنى آخر استُخدم المسيحييون "كبش فداء" لارضاء الآلهة الوثنية، علّها ترضى عنهم.
اجتماعياً: ساهمت المشاكل الاجتماعية في جلب الاضطهاد على المسيحيين أيضاً. فقد انجذب للمسيحية عدد ليس بقليل من العبيد والطبقات الفقيرة في المجتمع، وهذا ساهم في جلب الاحتقار والكراهية من قبل الطبقة الأرستقراطية. كما وفصل المسيحيون أنفسهم عن أماكن الوثنيين، كالمسارح والمعابد وأماكن الترفيه. فصارت النظرة إليهم بأنهم انعزاليون، ووُصفوا بأنهم "أعداء الإنسانية". وأصبح من السهل إلصاق أي تهمة سياسية ودينية بهم.
رد فعل الكنيسةنظراً للظروف المذكورة أعلاه، لم يكن بإمكان الكنيسة أن تعمل تحت إطار منظم، فجاء ردها بصورة عفوية ومحلية، منقاداً بتوجيه اساقفتها او خدامها المحليين. ويمكن تلخيص موقف الكنيسة بما يلي:
أولاً، تشّبهت الكنيسة بسيدها، فمن جهة كانت حملاً وديعاً "يساق للذبح" بدون ذنب، فوقفت مكتوفة الأيدي أمام بطش الأباطرة والحكام وظلمهم. لكن من جهة أخرى كانت كالأسد الذي لا يهاب الموت، فتمسّك المؤمنون بإيمانهم حتى لو قادهم هذا الامر للموت، معلنين أن طاعتهم قبل كل شيء هي لله. بالرغم من هذا، من المهم أن نذكر أن عدداً ليس بقليل ضعف أمام وطأة الاضطهاد وشدّته وأنكروا ايمانهم.
ثانياً، نتجت عن هذه الفترة كمية كبيرة من الكتابات التي تُسمى بالكتابات "الدفاعية". فقد ارتفعت أصوات آباء الكنيسة لتدافع عن المسيحيين والمسيحية، كشعب وكعقيدة. وقد كان دفاعهم هذا من خلال رسائل وكتابات وجّهوها للأباطرة يشرحون فيها جوهر المسيحية ويدافعون عنها، مظهرين أن المسيحيين لا يختلفون عن بقية الناس، وهم ليسوا أعداء الامبراطورية بل في الحقيقة هم مواطنون أكثر اخلاصاً لها من الآخرين، لأنهم مسيحيون.
بناءً على ما تقدم، يمكن القول أن الكنيسة لم تأخذ موقف اللامبالاة مما كان يجري حولها، فمن ناحية شجّعت أعضاءها على التمسك بمواقفهم المسيحية أمام السلطات، وكانت مستعدة لدفع ثمن تلك المواقف. ومن ناحية أخرى تركت لنا مثالاً واضحاً في أهمية تسخير الفكر والقلم للدفاع عن إيماننا!
انتهت هذه الفترة المؤلمة، كما سبق وذكرت، في القرن الرابع حيث بزغ فجر جديد على الكنيسة نالت فيه حرية العبادة. وسألقي الضوء في المقال القادم على نوع جديد من العلاقة بين الكنيسة والسلطة السياسية نتيجة الواقع الجديد، والكيفية التي أثر فيها هذا الامر على مسيرة الكنيسة.