انتصرت الكنيسة على التحديات الخارجية التي واجهتها في القرون الثلاثة لنشأتها، كما وتم القضاء على الوثنية، على الأقل رسميًا في الدولة، مع أفول القرن الرابع. لكن واجهت الكنيسة، في القرنين الرابع والخامس، تحدّيات تمثلّت ببدع مختلفة قام بنشرها أساقفة من داخلها. وقد أثارت هذه التعاليم الخاطئة مجادلات لاهوتية كثيرة، قامت الكنيسة على أثرها بالدعوة لعدة مجامع كنسية في الفترة ما بين 325-451م، سعت فيها إلى صياغة إيمانها من خلال قوانين دقيقة وعبارات لاهوتية واضحة. ضمّت هذه المجامع قادة الكنيسة من مختلف أنحاء العالم، وقد عُرفت باسم المجامع المسكونية. وكان من نتيجة هذه المجامع، حسم القضايا اللاهوتية الأساسية وصياغة إيمان الكنيسة من خلال ما يُعرف بقانون الإيمان.
ومن الجدير بالذكر أن الملوك المسيحيين تدخلوا مباشرةً في الدعوة والتنظيم لهذه المجامع كمحاولة منهم لحل الخلافات، وفرض السلام في الدولة. لم يكن تدخل هذه الشخصيات إيجابيًا دائمًا، فقد وقف بعض منهم مع المهرطقين، فارضين على الكنيسة ولو لفترة قصيرة قبول بعض التعاليم المغلوطة. وقد أدت هذه النقاشات والمجادلات إلى انقسامات ونشوء فئات متعددة في الكنيسة لا يزال بعضها باقيًا إلى يومنا هذا.
ويُعتبر المجمع الأخير من هذه المجامع (مجمع خلقدونية)، مجمعًا مفصليًا، إذ على أثره انشقّت الكنيسة في شرقنا. ولا أنوي في هذه المقالة القصيرة أن أعالج قرارات هذا المجمع وخلافاته، فهناك كتب ومقالات كثيرة جدًا تتطرق له من نواحٍ مختلفة. لكن ما أسعى إليه، هو النظر للأزمة التي وضع فيها هذا المجمع الكنائس في الشرق. فمجمع خلقيدونية يمثل نقطة فارقة في حياة الكنيسة استمر أثرها لأكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمان.
ما هي إذن قصة هذا المجمع؟
مجمع خلقدونية هو مجمع مسكوني عُقِد بأمر من الإمبراطور في مدينة خلقدونية (في القسم الشرقي من تركيا حاليًا) سنة 451م. وقد كان الموضوع الذي وضع على طاولة البحث هناك، العلاقة بين طبيعة المسيح البشرية وطبيعته الإلهية. وقد جاء قرار المجمع بتأكيد الكنيسة إيمانها بوحدة شخص المسيح وبـالطبيعتين في المسيح، الطبيعة الإلهيّة الكاملة والطبيعة الإنسانيّة الكاملة. وأعرب القرار عن إيمان الكنيسة بالابن الواحد الكامل من حيث الوهيته والكامل من حيث إنسانيته، فللمسيح طبيعتان إلهية وإنسانية، بلا اختلاط ولا تغيير، وبلا انقسام ولا انفصال.
إلا أن ممثلي الكنيسة القبطية والكنيسة السريانية (والكنيسة الأرمنية لاحقاً) عارضوا قرارات هذا المجمع. وكان سبب المعارضة رفضهم استخدام المصطلح "طبيعتين" على الرّب يسوع. فاصطلاح "طبيعة" مساوٍ لاصطلاح "شخص"، بحسب قولهم، ولذلك لا يمكن أن يكون يسوع شخصين متّحدين بعضهما مع البعض. وفي النهاية أدى هذا النزاع إلى انشقاق في الكنيسة ونشأت الكنائس التي تُعرف اليوم باسم "الكنائس المونوفيزية".
لكن ما يشير إليه الباحثين اليوم، أن المشكلة الرئيسية لم تكن جوهرية، بل هو سوء تفاهم لغوي، واختلاف في التعبير بين اللغة اليونانية المستخدمة في الشرق، واللغة اللاتينية المستخدمة في الغرب. وأن كلا الفريقين لهما نفس الايمان والمعتقد بهذه القضية. فمع أن الكنائس الشرقيّة ذات التقليد القبطيّ والأرمنيّ والسريانيّ تعتبر أن الألفاظ المستعملة في هذا المجمع تشير إلى وجود "شخصين في المسيح"، إلا أن هذا بالضبط ما رفضه المجمع رفضًا باتًّا، بتأكيدهم وحدة الشخص في المسيح. وهكذا فقد إنقسمت الكنيسة على عقيدة متفق عليها.
نتائج هذا الانشقاق
أدى هذا الانشقاق الى تفاقم العداء والقطيعة وخلق فجوة عقائدية منذ ذلك الوقت بين ما أصبحوا يعرفون باللاخلقودنيون (أي من رفض قرارات المجمع)، والخلقودنيون (أولئك الذين قبلوا القرارات). وأدت هذه المواقف من الطرفين لأول انشقاق كبير في تاريخ الكنيسة. وقد تطور هذا الخلاف تدريجيًا ليصبح خلافًا سياسيًا أيضًا. فمن جانب، قام أباطرة القسطنطينة باضطهاد الكنيسة المصرية والسورية، كمحاولة للحفاظ على وحدة الإمبراطورية. لكن عندما هاجمت الجيوش الإسلامية الدولة البيزنطية، "انقسم العرب عربين"، انضم قسم من المسيحيين لجيوش الروم، ومن جانب آخر، وكرد فعل على ما الحقه الاباطرة الرومان برعاياهما من ظلم وقسوة، تعاون الاقباط في مصر والسريان في سوريا مع جيوش المسلمين، الذين اعتبروهم محررين لهم من ظلم بيزنطة لا محتلين غزاة، مما أدى الى استيلائهم على تلك المناطق. وانعكس هذا الامر سلبياً على الكنيسة فضعفت تدريجياً، وفقدت مع الوقت تأثيرها وشهادتها. وبالنتيجة ساهم هذا الانشقاق، وغياب الوحدة، والصراع بين الفئات المسيحية المختلفة، لتقديم ديانة مسيحية وكأنها دون غيرها من الأديان، وأثّر عليها أشر تأثير. وما زلنا، حتى يومنا هذا، نلعق علقم هذا الانشقاق ونتائجه.
أخيراً، إن ما ميّز هذا الفترة هو أول اضطهاد رسمي من قِبَل سلطة "مسيحية" لمسيحيين، وبالمقابل اغتنام الطرف الاخير الفرصة لينتقم لنفسه من هذه السلطة. والسبب الرئيسي الذي أدى لخلق هذا الجو من التوتر بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، هو اختلاط الدين بالدولة وعدم الفصل بينهما. الامر الذي كان له الأثر السلبي على تاريخ الكنيسة وشهادتها، بحسب رأيي، حتى يومنا هذا، وأساء جداً لسمعة الكنيسة وارساليتها كما سنرى في المقالات القادمة.