يبدأ مع مطلع القرن السابع عصر جديد من عصور الكنيسة. فخلال هذا القرن انفصلت الأقطار الشرقيّة والجنوبيّة سياسيّاً عن الدولة الرومانية بعد أن كانت قد اتصلت بها طوال ألف سنه، منذ عهد فتوحات الإسكندر المكدوني. وخرج الاسلام في تلك الفترة من الجزيرة العربية حاملاً دعوته الى جميع اقطار الشرق والغرب. واصتبغت هذه الدعوة منذ بدايتها بطابعها الحربي، فاكتسحت جحافل جيوش المسلمين الجيوش الرومانية والفارسيّة التي كانت قد أنهكتها حروب عديدة استمرت بين الامبراطوريتين لسنين طويلة، انتهت آخرها بمعاهدة صلح سنة 629م، لكن لم يهنأوا بها طويلاً، بسبب القوة الجديدة التي نشأت في الشرق، القوة الإسلامية. ومع انتهاء القرن السابع كان العرب المسلمون قد إستولوا على سوريا والعراق ومصر وشمال إفريقيا وقسم من آسيا الصغرى، ودخلوا الى الأندلس سنة 711م.
وقبل أن اكمل الكتابة، أود أن أستميح قُرّائي عذرًا، لان البعض سيشعر أن ما سأكتبه لربما لا يوفي الموضوع حقه، وأنا أتفهّم هذا، فصحيح أنّ ما سأخطّه في الاسطر القليلة القادمة ما هو الا مختصر المختصر لفترة طويلة ومتشابكة لا تخلو من التناقض، وبحاجة لوقت طويل للخوض في أحوال كل فترة وفترة لتقييمها ومناقشتها. لكن من المهم ان أعود وأُذكّر أن جُلّ اهتمامي هنا هو إظهار موقف الكنيسة والمسيحيين من النظام السياسي-الديني الجديد بما فيه من تحديات لإيمانهم وسأكتفي بتقديم الخطوط العريضة.
المسيحيون في ظل الدولة الاسلاميةما أن أمسك محمد بزمام الامور حتى تغيّر خطابه السياسي والديني في تعامله مع المسيحيين، فوضع أمامهم ثلاثة خيارات: الأول، الدخول للاسلام. الثاني، البقاء على دينهم ودفع الجزية، أو ترك بيوتهم وأراضيهم والهجرة الى بيزنطة. ولتثبيت هذا النهج ابتدأ بإبرام عهود مع الذين اختاروا البقاء، كانت أوّلها العُهدة مع أهل نجران المسيحيين، مُبتدأً بذلك عهداً جديداً لمسيحيي الشرق، عهد أهل الذمة. ومع اتساع الدولة والحاجة الى تنظيمها، اضطر الخلفاء والحكّام الى إصدار قوانين واضحة تُحدّد موقف الدولة من المسيحيين، وتُنظّم أوضاعهم الدينية والسياسية والاجتماعية. وقد عُرفت هذه الأحكام "بسياسة العهود". وهنا جديرٌ بالذكر انه في كثير من الاحيان لم يلتزم الحكام نفسهم بهذه العهود. ويمكن تلخيص حقوق من دخلوا بالعُهدة، الحق في الأمان على نفوسهم وأموالهم، وحق الحماية والسكن، ومزاولة الأعمال المختلفة. ولا يوجد عليهم أي قيود إلا في تغيير دينهم، إذا غيّروه فيجب أن يكون الى الإسلام وحده. وأما في الزواج فلا يحق لهم الزواج من مسلمة. أما الواجبات فهي دفع الجزية، وعدم مقاتلة المسلمين، أو معاونة أعداء المسلمين، أو التعرض لدين الإسلام أو نبيّه. وقد أعطت هذه الأحكام حرية نسبية للمسيحيين في حياتهم اليومية وممارسة إيمانهم بالأخص في القرن الأول الهجري.
كانت أحوال المسيحيين تتبدّل من أحوال جيدة الى سيئة، وأحياناً من سيئة الى أحسن، وكل ذلك يتعلّق بالخليفة في ذلك الوقت. فتارة نجد توجُّه الحوار والترغيب والانفتاح والدعوة الى الوفاق، وتارة التحذير والتهديد والقتل والتهجير. فعلى سبيل المثال ومع أن مسيحيي نجران جدّدوا البيعة لأبي بكر، إلا أن عمر قام بطردهم من الجزيرة العربية، وأجلاهم لبلاد الشام والعراق خوفا من ازدياد نفوذهم وقوتهم، متّخذاً من قول محمد حجة بأن "لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان". أما في عهد بني أُمية، فبعد ان هنِئ المسيحيون بحرية ومركز ليس بقليل في بداية الحكم، إلا أن الأوضاع تغيّرت لاحقاً، فقد عرّب الخليفة عبد الملك لغة الدواوين واستغنى عن كثير من الموظفين المسيحيين، وضغط على بني تغلب ليدخلوا الى الإسلام، وزاد في الأحكام والقوانين وضيّق على المسيحيين واضعاً الكثير من القيود عليهم، وكل ذلك بُغية إدخالهم الى الاسلام، ناهيك عن تحويل عدة كنائس لمساجد أشهرها كنيسة يوحنا المعمدان في دمشق التي تُعرف اليوم بالمسجد الأموي. وتتكرر هذه الامور في العصر العباسي أيضاً. فنجد مثلا البطريرك تيموثاوس النسطوري يجيب بحرية على أسئلة الخليفة المهدي علناً في بلاط القصر، وبالمقابل نجد الخليفة المتوكل يضيّق جداً على المسيحيين ويضطهدهم، ويذكر التاريخ أعداد وأسماء شهداء مسيحيين لاقوا حتفهم بسيف الاسلام. أثّرت الضغوطات المستمرة والاضطهادات أحياناً أيّما تأثير على المسيحية، وليس بخفي علينا أن الوجود المسيحي في الشرق هزُلَ وضعُفَ ضعفاً شديداً مع حلول القرن العاشر. ومع بقائه في بعض البلدان مثل مصر وسوريا والعراق، إلا أنه اختفى كلياً من أغلب مناطق الجزيرة العربية وشمال أفريقيا.
سأكتفي في هذا المقال بعرض الخلفية التاريخية للتغيير الكبير الذي تعرّضت له الكنيسة في الشرق، وسأتابع في مقالي القادم ردود فعل الكنيسة والمسيحيين على هذا الواقع الجديد.