قدمت في مقالي السابق ملخصاً للتغيير السياسي والديني الذي طرأ على الشرق، والتحديات الجديدة التي واجهتها الكنيسة في القرون الخمسة الأولى للدولة الإسلامية. وبناء على ما تقدم، سأستعرض في ما يلي رد فعل الكنسية وتجاوبها مع واقعها السياسي والديني الجديد، والأثر الذي تركه هذا التجاوب على كنيسة الشرق حتى يومنا هذا.
الأسلمةيجب أن ندرك أن السياسة في الدولة الاسلامية ارتبطت بالدين، فقوانين الدولة هي قوانين الشريعة، لذلك اصبحت الحياة اليومية للكنيسة وللمسيحيين مرتبطة بعلاقتهم مع الشريعة (السلطة) التي تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع. وكنتيجة للاحوال الدينية-السياسية الجديدة، نجد أن الكثير من المسيحيين (خاصة المسيحيين العرب) قد تحوّلوا الى الاسلام. يمكن أن نعزو ذلك لاسباب عديدة يتعلق قسم منها بالاسلام نفسه، وقسم يتعلق بالمسيحيين. أما تلك المتعلقة بالاسلام فيمكن تلخيصها بما يلي: أولا، الخوف من السيف. فقد أسلم عدد ليس بقليل تحت تهديد السيف والتهجير. ثانياً، التهرب من دفع الجزية. كان العبئ المادي والعامل الاقتصادي المتمثل بدفع الجزية، السبب الرئيسي في تحوّل الكثير من المسيحيين الى الاسلام. فالفقر وفظاظة العيش دفع الكثيرين للبحث عن الحل الأسهل، الاسلام.
بالرغم من الدور الكبير الذي لعبته العوامل المذكورة سابقاً في دخول الكتير من المسيحيين الى الاسلام، لكن يمكننا الاشارة الى اسباب داخلية أيضاً. فلم يثنِ الاضطهاد عزم الكنيسة في القرون الاولى رغم شدته وعنفه وقسوته، والامور المذكورة سابقاً لم تكن أسوء ما مرّت به الكنيسة في قرونها الاولى، فلماذا الامر مغاير هنا؟ لا يوجد جواب واضح نستطيع ان نخرجه من جُعبة التاريخ لنفسّر هذا الامر، لكن بإمكاننا الاشارة لبعض الأمور التي تعطي تفسيراً لما جرى.
أولاً، الطمع في الغزو مع المسلمين وكسب الغنائم، والحفاظ على المركز والسلطان. ثانياً، الخلافات اللاهوتية والانشقاقات التي حدثت في القرن الرابع، كما سبق وذكرت في مقالي السابق، أدّت الى صراعات داخلية شديدة نتج عنها ضعف الشهادة المسيحية، وأثنى عزيمة الكثيرين عن التزامهم للكنيسة. فعلى سبيل المثال، استحسنت الطوائف المسيحية المُضطهَدة من الامبراطورية البيزنطية الوقوف بصف جيوش الاسلام، أملاً في التخلص من الحاكم البيزنطي (المسيحي) الظالم. ثالثاً، أصبح الأسلام دين الدولة الرسمي، فشكّل هذا الامر ضغطاً طبيعياً ادى الى تحول الكثير لينضموا الى ديانة الأغلبية. ورد الفعل هذا ليس بغريب علينا، فمثلاً يعلمنا التاريخ، أن نفراً ليس بقليل دخلوا للمسيحية، في القرن الرابع، فقط لانها اصبحت دين الدولة الرسمي، لينالوا حقوقاً وامتيازات كاملة، وليس على أساس قناعة وإيمان. ويتكرر هذا الامر هنا، فعندما أصبح الإسلام دين الدولة الرسمي اختار نفر ليس بقليل الدخول فيه.
التمسُّك بالمسيحيةومع سواد الصورة السابقة إلا أن هناك صور مشرقة نجدها في تمسك العديد من المسيحيين بإيمانهم. بالطبع لم يكن هذا الامر سهلاً، فليَبقوا على اتّباعهم للمسيح كان عليهم أن يدفعوا الثمن، ولا أقصد المجاز هنا، فقد قام هؤلاء بدفع الجزية لقرون طويلة. وفضّل البعض التهجير وفقدان الارض والبيت وموارد العيش، عن التخلي عن إيمانه. وبرأيي هذا موقف بطولي أخذه أجدادنا في الشرق معلنين أمام السلطات في ذلك الوقت، "نريد أن نبقى على أيماننا ونحن مستعدون أن ندفع الثمن". وقد ساهم في التشجيع على هذه المواقف رهبان وأساقفة أمناء، ساندوا شعبهم وحّزوهم على التّمسك بمسيحيتهم لقرون طويلة.
بالاضافة الى ذلك، ما يميّز القرون الأولى للإسلام، هو الازدياد في الكتابات المسيحية اللاهوتية، كردٍّ على السلطة السياسية والدينية في تلك الفترة. فأمام التحدي الجديد الذي واجهته المسيحية أدرك بعض قادتها أهمية تقديم الرد والدفاع عن الايمان المسيحي بلغة عربية، خاصة بعد التعريب الذي واجهته المنطقة. لذلك أتت كتابات عدة لاهوتيين لتقدّم الدفاع عن اتهام المسيحيين بالشرك، وتقديم تفسير لمواضيع مهمة مثل ألوهية المسيح والفداء والثالوث وغيرها. ومن اللاهوتيين الذين سخّروا أقلامهم للكتابة يوحنا الدمشقي، ويحيى بن عُدي التكريتي، وأبو رائطة التكريتي، وساويرس بن الملقفع، وثاودروس ابو قرة، والبطريرك تيموثاوس الأول النسطوري، وحنين بن اسحق. وبالطبع يمكن ذكر آخرين من المسيحيين البارين ممن ساهموا في مجالات علمية وثقافية وسياسة واقتصادية والترجمة.
سؤال مفتوحاصبحت مشكلة المشاكل بالنسبة لمسيحية الشرق منذ ذلك العصر تتلخص في السؤال الآتي: كيف تحافظ الكنيسة على ما بين يديها؟ وليس كيف تنمو وتوسع تخومها وتنتشر؟. ومنذ ذلك الوقت اصبحت كنيسة الشرق في حالة صراع البقاء، بعدما اضمحلت الى ما نحو الصفر في الكثير من مناطق العالم الاسلامي، وتحول اتجاه نشاطها وفعالياتها نحو الداخل، دون التوجه الى الخارج. وها يأتي السؤال، هل تبقى المسيحية مسيحية حين تفقد حماسها التبشيري، وتطفئ جذوة الطاعة للوصية العظمة "اذهبوا وتلمذوا جميع الامم..." وما معنى التبشير المسيحي إن فقد امكانية دعوة غير المؤمنين الى الايمان بيسوع مخلصاً؟