ما ان انفضّت الجولة الاولى لانتخابات البلديات في بلداتنا العربية حتى علَت صيحات وطلقات وزغاريد وزمامير النصر. واكرم الفائزون مؤيديهم باطعامهم بينما بادلهم هؤلاء المحبة ونشوة النصر بالتبريكات والهدايا. والبعض غالى بالامر فنظم القصائد على شرفهم وعدد مناقبهم، شئ كان وشئ ما كان، كعادة العرب في المبالغة الشديدة.
بالمقابل لملم الخاسرون جراحهم. بعضهم هنأ الغريم المنتصر ببيان على شبكات التواصل الاجتماعي وبعضهم الآخر ،وهو براغماتي بالغالب، فحمل وزره وانطلق ليهنئ منافسه المغبوط شخصياً بما يمكن اعتباره لفتة جميلة. وكانت هذه المباركات الشخصية بين المتنافسين ضرورية في بعض الاحيان عند تراشق مؤيدي هذا وذاك بالحجارة وتوعدهم بايذاء بعضهم البعض بسبب خرق اتفاقيات حمائلية و"خيانة" فرع عائلة او مجرد تنفيس للصدور المغلولة بغيظ وضيق شديدين.
لكن توجه الرئيس الفائز ، جديدا كان ام قديما جددت الجموع ولايته، هو الحاسم لمن يريد الخير لبلداتنا.ان عبارة "الانتخابات يوم والبلد دوم" ليست شعاراً فحسب. انها مقولة حقيقية وهامة ومفصلية لكل بلد. فحملاتنا الانتخابية والحمدلله اصبحت اكثر تعقيدا. وشغلت وسائل التواصل الاجتماعي دورا رئيسيا واصبحت بمثابة ساحة القرية او المقهى العمومي او ديوان البلدة الذي كان المجتمعون في الماضي غير البعيد يبدون فيه برايهم ويدلون بدلوهم. لكن الاخلاق تدهورت وتعثرت لاسباب لا مجال للتطرق اليها هنا، ومن جهة اخرى اصبح كل مواطن، كبيرا كان ام صغيرا، صاحب صوت ورأى وفلسفة يكتبها دون رادع او كوابح. واصبح بامكان اي فتى عبيط او رجل جاهل وسفيه ان ينفث سموم افكاره بضحالتها وحتى شتائمه في فسيح الجو الافتراضي. ولا شك ان الزاوية المريحة على الكنبة وراء ستار التلفون الخليوي على ما فيها من مخبأ ناهيك عن الاسماء المزيفة تزيد الامور حدة بدرجات. يُلقى الكلام على عواهنه وتؤجج نار الفرقة والتعصب والبغضة.
فما ان تنتهي كل حملة انتخابية حتى تحتاج البلد ككل الالتفاف حول الرئيس الجديد وقد تعهدوا بالعمل لأجل نجاحه، لأن نجاحه هو من نجاحهم. ولكن ترسبات الحملات الانتخابية وجروحات التقريع والتشهير لا تشفى وحدها.ومن جهته تلقى مسؤولية جبارة على اكتاف الرئيس المنتخب ومجموعته المسيطرة اذ يتوجب ان يقود حملة الشفاء. يتوجب ان يضمد جراح الخاسرين، لا ان يمرمغها بالملح فيزيدها قروحا اشد ايلاماً. والمرارة في النفس لا تنحسر فتموت تدريجيا ولا تنحصر في صاحبها بل تنتقل بعدوى المه كما قال كاتب سفر العبرانيين : "لئلا يطلع اصل مرارة ويصنع انزعاجا، فيتنجس به كثيرون" (عب 12: 15).
في نهاية المطاف جميع متنافسي الرئاسة والعضوية وكل الناخبين هم اهل بلدة واحدة ذات ماضي وتاريخ وتراث وايضاً مستقبل واعد وزاهر يتمناه الكل.
ان طبيعة النسيج الاجتماعي لأي بلدة هو انه غير متجانس. فهو يضم مواطنين من ديانات وطوائف مختلفة، مستوى تعليمي متفاوت، طبقات اجتماعية واقتصادية مختلفة، اولاد حارات متنوعة، خلفيات متباينة (من اهل البلد "الاصليين" واللاجئين")، شبابا وكبارا وغيرها.
يتوجب على الفائز ان يلملم الشمل ويحتضن الخاسر واعوانه قبل مؤيديه بكلام لطيف حسب قول الحكيم سليمان: "الجواب اللين يصرف الغضب والكلام الموجع يهيج السخط ". بعد ان يقول الناخب كلمته، ينبغي ان يقبلها الجميع وتتآلف القلوب بكلام المحبة والمودة تحت لواء الرئيس الفائز ومجموعته المتنفذه وكما علّمنا القدماء:
"ولكن قبل كل شيء، لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة، لان المحبة تستر كثرة من الخطايا"(1 بط 4: 8).المحبة هي بمثابة اقوى انواع فاعلة من دواء الغسيل الناجع الحاد فتمحي سيول البغصة والضغينة والكراهية التي انتعشت خلال ما سُمى صدقا "معارك" انتخابية. كلام وفعل محبة من شهامة واخلاق الرابحين هي بمثابة الدواء فيتماثل العليل الذي انهكه تراشق الكلام والتهجم والعنف. وهكذا تعود مدننا وقرانا للانطلاق نحو غد افضل.