سقطت القسطنطينيّة، روما الثانية (كما أطلقت عليها الكنيسة الشرقيّة)، سنة 1453 على يد العثمانيين، الذين استمرّوا بتوسّعهم العسكري واحتلّوا، بقيادة السلطان سليم الأوّل سنة 1516 سوريا ومصر والعربيّة من يد المماليك. وبذلك أصبحت بطركيات القسطنطينيّة والإسكندرية وأنطاكية والقدس خاضعة لحكمهم. وبكلمات أخرى، أصبحت كلّ البطركيّات الأرثوذكسيّة، ولأوّل مرّة في التاريخ، تحت حكم إمبراطوريّة إسلاميّة. لم يعتبر المسيحيّون في المشرق العربي تغيير السُلطة هذا حدثاً ذات شأن، إذ لم يكن لهم في هذا النظام كسابقيه، مساهمة في الرأي أو مشاركة في القرار، فهم أهل ذمة في حمى المسلمين، لا يتساوون معهم في الحقوق.
لكن سرعان ما ابتدأت السلطة العثمانيّة بتغيير سياستها مع الكنيسة، وبمعاملة المسيحيين معاملة أفضل من معاملة المماليك لهم. فعيّن السلطان محمد الثاني، فاتح القسطنطينيّة، الراهب جيناديوس بطرياركاً لكرسي القسطنطينيّة، ومنحه صلاحيات واسعة، ليس حبّاً في الكنيسة والمسيحيين بل "لغاية في نفس يعقوب". فجيناديوس كان معروفاً بمواقفه العدائية للكنيسة الغربيّة، فأصبح تعيينه، بالنسبة للأتراك، ضمان لعدم إمكانيّة حل خلاف الكنيسة الشرقيّة مع روما، لا بل باتَ هذا التعيين بمثابة حكم الإعدام على مُقرّرات مجمع فلورنس، المجمع الذي سعى الى سدِّ الفجوة بين الكنيسة الشرقيّة والغربيّة، وإيجاد حل وسط في بعض المعتقدات والممارسات من أجل تحقيق الوحدة الكنسيّة.
أعطى هذا التعيين لبطريرك القسطنطينية امتيازات جعلته رئيساً على جميع الكنائس الأرثوذكسيّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة. وتمّ الاعتراف بالبطريرك الغريغوري الأرمني سنة 1461 مُمثّلاً شرعيّاً للكنائس اللاخلقيدونيّة والكاثوليكيّة. وبذلك أصبح احتكام جميع المسيحيين، بما يخصُّ بقضايا أحوالهم الشخصيّة، عن طريق البطريرك الأرثوذكسي المسكوني ونظيره الغريغوري الأرمني فقط. وكان البطريرك يتمتّع داخل طائفته بصلاحيات تدبير شؤونها الدينيّة والاحوال الشخصيّة لرعاياه. وكان كل بطريرك يتلقّى عند تنصيبه فرماناً سلطانيّاً يثبت سُلطته كحاكم على أتباعه، ويحدّد السلطة الممنوحة له، والحقوق المدنيّة التي تتمتّع بها طائفته. ومارست الكنيسة، في هذه الحقبة من تاريخها، سلطة قضائيّة على رعاياها لم تكن الامبراطوريّة البيزنطيّة (المسيحيّة) لتسمح لهم بها قبل سيطرة العثمانيين على القسطنطينيّة.
فتح هذا الأمر الباب أمام المسيحيّين لممارسة إيمانهم وإدارة أحوالهم الشخصيّة ضمن قوانينهم الكنسيّة، بشرط الخضوع الدائم للسلطان العثمانيّ ودفع الجزية، على أن يكون رئيس الكنيسة (البطريرك) كفيلاً بضمان تنفيذ شروط أهل الذمّة. وعلى إثر هذا الانفتاح الذي أظهره العثمانيون في التعامل مع بطريرك القسطنطينية والامتيازات التي مُنحت له، فضّلت الكنيسة الارثوذكسية الخضوع للحكم العثمانيّ مع الاحتفاظ باستقلال الكنيسة الإداري، على التبّعية لروما. وانتشر آنذاك القول المأثور: "عمائم الشيوخ ولا قبّعات الكرادلة".
لكن كما يقول الشاعر "ويبتلي الله بعض القوم بالنّعمِ"، إذ تحوّلت هذه الحريّة والسلطة التي نالها البطاركة الى منصب يتنافس عليه رجال الدين، وباتوا على استعداد لدفع ثمن المناصب الكهنوتيّة المختلفة. راقَ هذا الأمر للسطات التركيّة وابتدأت بمطالبة البطاركة والأساقفة بالدفع مقابل التعّيين، وأصبح المال مدخل لهذه المناصب، وشهدت هذه الفترة عزل وتنّصيب الكثير من البطاركة. وهكذا تعاون الفساد الكنسيّ مع الفساد المدنيّ، وأصبح المال يُعيّن ويعزل. الأمر الذي أثّر سلباً على دور الكنيسة الروحي والإجتماعي.
نظام المِلل
تعني كلمة "مِلّة" Millet في اللّغة التركيّة "أُمّة"، أمّا في اللّغة العربيّة فلم تُستخدم هذه الكلمة قبل الاسلام. أمّا في القرآن فاستُعملت 15 مرّة تحمل فيها دائما معنى الدين. وهذا هو المعنى الذي نجده في الأدب العربيّ المعاصر "دين، مذهب، أو طائفة دينيّة". ولم يُطلق هذا الاسم لا على المسيحيّين ولا على اليهود إلا في العصر العثمانيّ، الذي قسّم أهل الذمة (من يهود ومسيحيّين) إلى: ملّة اليهود وملّة الأرمن وملّة الروم (الشعب الرومانيّ). وبالرّغم من أن دور بطاركة الشرق في الامبراطوريّة العُثمانيّة لم يكن جديداً كليّاً، لكن جاء النظام الملّي ليوسّع دورهم ويُشرّعه، ويوضّح بالأخص علاقته مع السلطة المدنيّة.
أخذ عدد المِلل المسيحيّة بالتزايد في القرن التاسع عشر على نحو ملحوظ ليصل إلى 14 ملّة. تزامن هذا الازدياد مع فترة عُرفت بفترة التنظيمات في الدولة العثمانيّة. ففي سنة 1856 اصدرت السلطنة مرسوم عُرف باسم "خط شريف همايون"، الذي نصَّ على معاملة جميع سكان السلطنة معاملة متساوية بغض النظر عن ديانتهم. وبذلك تصبح الخلافة العثمانيّة أوّل خلافة في تاريخ الاسلام تُبطل إلزام العمل حسب الشرع الاسلامي إزاء الذمّيين. ولا تعود هذه التغييرات وازدياد عدد الملل لرقّة وانفتاح العثمانيين تجاه الاديان الاخرى، بل لإرضاء الدول الأوروبيّة وكسب دعمها والسياسيّ.
وقفة تفكير
لا شك في ان نظام الملّة مُتقدم على نظام أهل الذمّة وأرقى منه بما يمنحه من إدارة ذاتيّة ومساواة واستقلال للكنيسة في إدارة شؤونها الإيمانيّة وأحوالها الشخصيّة. لكن كان له تداعيات سلبيّة على الكنيسة يمكن تلخيصها بما يلي:
أولاً، لم يكن نظام الملّة نظاماً لمواطنة متساوية بين أفراد متساوين. بل غذّى الطائفيّة ورسّخها بين أتباع المذاهب المختلفة ضمن الديانة الواحدة والقوميّة الواحدة. وأصبحت الملّة أشبه بمجتمع منغلق وخاص ومنفرد وغريب عن المجتمع، يمثّله رجال الكهنوت فقط، غالباً اجانب، وتحميه دول أجنبيّة. وأجّج هذا النظام الصراع حتى بين عائلات الملّة الواحدة الذين تصارعوا على التعينات الكهنوتيّة لما يحمله المركز من تأثير وسلطة، غير متردّدين في استخدام الرشوة وشراء المراكز بالمال.
ثانياً، لم تلغِ التنظيمات نظام الملل بل حافظت عليه، وأبقت على الحقوق والامتيازات الممنوحة للبطاركة. واحتفظت الدولة العثمانيّة في الوقت ذاته بحقّ الإشراف على انتخابات البطاركة وتعيين الأساقفة. فكان على المجمع الكنسيّ الذي ينعقد لينتخبَ بطريركاً جديداً، أن يقدّم الى الباب العالي لائحة بأسماء المرشّحين، ويحقّ للباب العالي أن يستثني منها الأشخاص الذين لا يرى فيهم اللياقة. وبذلك ابقى هذا النظام الحقّ للدولة للتّدخل بطريقة مباشرة في حياة الكنيسة.
ثالثاً، كانت الملّة وحدة اجتماعية سياسيّة مستقلّة، الأمر الذي ساهم الى تحوّل الطائفيّة من ظاهرة دينيّة إلى ظاهرة سياسيّة، خاصّة في فترة الضعف والتفكّك في الدولة العثمانيّة. ففي هذه الفترة منحت الدولة العثمانيّة امتيازات قانونيّة للقنصليّات الاجنبيّة في مجال القضاء والتجارة، واشتملت هذه الامتيازات على حماية الاقليّات والملل المسيحيّة. وتكوّن على اثر هذا ما يُعرف في التاريخ بالحماية الغربيّة للمسيحيّين، فاصبحت فرنسا حامية الكثلكة وروسيا حامية الأرثوذكسيّة وإنكلترا حامية البروتستنتيّة. وهكذا تحوّلت الملّة في الخلافة الاسلاميّة العثمانيّة، الى وجود اجتماعيّ سياسيّ دينيّ مستقل يحقّ للدول الأجنبيّة حمايته.
رابعاً، كان خضوع البطاركة الأرثوذكس لبطريرك القسطنطينيّة (اليونانيّ) من العوامل الهامّة التي ساهمت في هلينة الكنائس الارثوذكسيّة، وسيطرة الإكليروس اليونانيّ على المناصب الكنيسة. فبطبيعة الحال كان البطاركة الذين توالوا على الكراسي البطركيّة الثلاثة الخاضعة للقسطنطينيّة إمّا من أصل يونانيّ أو ذوي ثقافة يونانيّة. كما وباتت اللّغة اليونانيّة اللّغة الطقسيّة للاحتفالات الليتروجيّة.
وأخيراً، اشتركت الكنيسة في هذه الفترة باللّعبة التي وضعتها السلطنة، واستغلّ الطرفين بعضهما البعض. وبالطريقة نفسها التي استخدمت فيها الدولة نظام الملّة لتحقيق ربحٍ ماديٍّ وسياسيٍّ وسيطرة على رعاياها المسيحيّين، استغلّت الكنيسة الدولة وما يوفّره لها نظام الملّة من صلاحيّات لتحصيل أرباحٍ ماديّة وتوسيع نفوذها على أعضائها.