من النبوءات الهامة التي تحدثت عن ولادة الرب يسوع المسيح، هي نبوءة النبي إشعياء عن أن المسيح الذي سيولد ستكون الرياسة على كتفه. وأن من بين الأسماء التي سيُدعى بها: رئيس السلام، وأن لنمو رياسته وللسلام لا نهاية. وأنه سيجلس على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد(1). والعجيب في الأمر أن رسالة الملاك جبرائيل إلى العذراء مريم تضمنت نفس الوعود والعبارات، عندما قال لها الملاك: «وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(2). نستخلص من نبوءة إشعياء، وأيضاً من رسالة الملاك جبرائيل إلى العذراء مريم، أن هذا المولود الذي سيولد، هو الملك الذي سيجلسه الله على كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية. وشرح لنا النبي إشعياء عن نوعية مملكة المسيح هذه، عندما قال إنها ستكون مملكة الحق والبر التي ستثبت إلى الأبد.
لعلّ السؤال الذي لا بد أن نطرحه الآن هو: هل مَلَكَ المسيح؟ وما هي ماهية ملكه؟ لقد بدأ المسيح كرازته قائلاً: «لقد كمُل الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(3). أي حلّ الوقت الذي سيحقق فيه الله وعوده للشعب قديماً، وتتم فيه نبوءات العهد القديم، وتُعلَن فيه البشارة المفرحة، رسالة الإنجيل. والملاحظ أن المسيح أكّد أن الزمان قد كمُل، واقترب مجيء ملكوت الله. ولم يكن في مخططه أن هذا الملكوت سيتأجل إلى زمن آخر في المستقبل البعيد كما يفترض البعض.
لكن ما هو المقصود بملكوت الله؟ إن كلمة ملكوت تعود إلى فعل مَلَكَ، أي صاحب السلطة العليا. والملكوت هو المكان أو الزمان الذي ينشر فيه صاحب السلطان سيادته عليه. وهكذا يصح القول: أن ملكوت الله أو ملكوت السموات هو سلطان الله وملكه، أو سلطان السماء على البشر. ومن البديهي أن كلمة ملكوت تعني وجود ملك، والملك هنا هو الرب يسوع المسيح. ألم يسأل المجوس عندما أتوا إلى أورشليم: «أين هو المولود ملك اليهود؟»(4).
ولكي يوضح المسيح عن ماهية هذا الملكوت الذي أتى ليُعلنه تحدّث لتلاميذه عن أمثال الملكوت: مثل الزارع، مثل الزوان وسط الحنطة، مثل حبة الخردل، مثل الخميرة، مثل الكنز المُخفى، مثل إنسان تاجر يطلب لآلئ حسنة، مثل شبكة مطروحة في البحر(5). يتضح لنا من كل هذه الأمثال باختصار: أن ملكوت الله أو ملكوت السموات قد أتى وبطريقة غير متوقعة، فلا أحد توقّع مجيء هذا الملكوت وبهذا الشكل الخفي غير الظاهر. وبأنه ملكوت روحي، سينتشر بطريقة هادئة ويصل إلى كل أنحاء العالم، ويشمل البشر جميعاً وليس شعباً واحداً فقط. وأن بإمكان الإنسان الدخول إلى هذا الملكوت عن طريق الولادة الروحية الثانية(6). هذا هو سر الملكوت الذي أراد المسيح إعلانه لتلاميذه. وهو على عكس توقعاتهم وتوقعات اليهود: أن المسيح سيأتي كملك أرضي، ويؤسس مملكة أرضية. لكنه أتى لكي يؤسس مملكة روحية أساسها الحق والبر، كما تنبأ النبي إشعياء. وهو ما أكّد عليه أيضاً الرسل الأوائل في رسائلهم بالعهد الجديد.
إن المسيح لم يعرض على الشعب في ذلك الوقت ملكوتاً أرضياً، وأن هذا الشعب رفض هذا الملكوت، كما افترض البعض. وبنوا على هذا الأساس فرضيات خاطئة كثيرة. ولم يكن هناك بالتالي أي تأجيل لهذا الملكوت إلى زمن بعيد في المستقبل. ولا نعيش حالياً فترة معترضة في تاريخ معاملات الله مع الإنسان، ستنتهي يوماً ما لكي يعود الله ويتعامل مع شعبه القديم ويحقق له الملكوت. إن هذا الافتراض يخالف قول المسيح: أن الزمان قد كمُل واقترب ملكوت الله. فهل كان المسيح يا تُرى يخدع مستمعيه؟
نعود إلى السؤال: هل مَلَكَ المسيح؟ متى؟ وكيف؟ هناك عدة شواهد كتابية، لكن سأكتفي في هذه المقالة بما أجابه الرسول بطرس عن هذا السؤال الهام في موعظته الشهيرة يوم الخمسين. إذ بعد أن اقتبس ما أورده النبي داود: «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادا»، علّق الرسول بطرس قائلاً: «أيها الرجال الإخوة يسوغ أن يُقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود أنه مات ودُفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم إنه من ثمرة صُلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلّم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً. فيسوع أقامه الله ونحن شهود لذلك... لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربّي اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً»(7).
إذاً لقد مَلَكَ المسيح لا بل جلس على كرسي الملك داود كما تنبأ النبي إشعياء، وكما أخبر الملاك جبرائيل العذراء مريم. مَلَكَ بقيامته المجيدة من بين الأموات، وصعوده حيّاً إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله الآب في مركز القوة والسلطان. هذا هو ملكوت الله الذي أتى به الملك المسيح، ملكوت الحق والبر، وكما أوضحه الرب يسوع المسيح نفسه في تعاليمه وأمثاله. فهو ملكوت روحي يستطيع الدخول إليه، كل من يؤمن بالرب يسوع المسيح، ويجعله ملكاً على حياته. وهو كما تُنبأ عنه ملكوت أبدي وليس ملكوتاً مؤقتاً.
- سفر إشعياء6:9-7.
- بشارة لوقا31:1-33.
- بشارة مرقس15:1.
- بشارة متى1:2-2.
- بشارة متى1:13-50.
- بشارة يوحنا1:3-8.
- أعمال الرسل25:2-36.