امتدّت الفترة التي تُعرف بإسم "الإصلاح البروتستنتيّ" قرابة قرنين من الزمن. ويُعّد اليوم الذي علّق فيه مارتن لوثر اعتراضاته الـ 95 على بوابة كاتدرائية ويتنبرج في ألمانيا، بتاريخ 31 تشرين أول سنة 1517، البداية الرسميّة لهذه الفترة. لم يقتصر الإصلاح الإنجيليّ على لوثر وألمانيا فقط، بل قام مصلحون في سويسرا أيضاً، أمثال كالفين وزوينجلي، وامتدّ تأثير هذه الحركة على مناطق أخرى في أوروبا خاصة في إنكلترا واسكتلندا. وقد تأثّرت حركة الإصلاح عامة بالأوضاع السياسيّة، وأثّرت فيها أحياناً أخرى. وبمقالي هذا، سأتطرّق لتلك التأثيرات والمؤثّرات التي حدثت بالأخصّ مع لوثر، وسوف أقيّم العلاقة بينه (كممثّل لكنائس الإصلاح) والسُلطة في تلك الحقبة المهمّة من تاريخ الكنيسة.
الخلفيّة التاريخيّة
وضّحت اعتراضات لوثر موقفه من ممارسات الكنيسة الكاثوليكيّة آنذاك، خاصة بما يتعلّق بالزواج غير الشرعيّ للكهنة، وبيع المناصب الكهنوتيّة، وصكوك الغفران، وجباية الضرائب من الناس، وتدخّل الكنيسة في الأمور السياسيّة. وكان تعليق الاعتراضات بهذا الشكل أمراً مقبولاً في تلك الفترة، وما قام به لوثر كان جزءاً من العادات الأكاديميّة، ولم تكن دعوة للانفصال عن الكنيسة الكاثوليكيّة. ومن ناحيتها، لم تَقُم الكنيسة بأيّة إجراءات فوريّة تجاه لوثر، وجاء أوّل ردّ رسميّ على اعتراضاته بعد نحو السنة، وذلك عندما استُدعيَ من قِبَل الكاردينال كاجيتيان للحضور إلى مدينة آوغسبورغ في ولاية بافاريا، لكن أمير سكسونيّة فريدريك الحكيم، رفض السماح له بالذهاب إلى حين تتعهّد الكنيسة بمنحه فرصة عادلة لسماعه.
لكن الأمور السياسيّة أخذت تتعقّد في أوروبا في تلك الفترة، ففي سنة 1519 توفّي مكسيميليان الأوّل إمبراطور الإمبراطوريّة الرومانيّة المُقدّسة، وابتدأت المنافسة بين حفيده تشارلز الخامس وملك فرنسا فرنسيس الأوّل للاستيلاء على العرش. ونتيجة لانشغال ملوك اوروبا والبابا نفسه في هذا الصراع حول خلافة الإمبراطور، نسُوا لوثر وابتعدت عنه الأنظار لفترة ما من الزمن.
وعندما تمّ أخيراً انتخاب تشارلز الخامس سنة 1520، بدعم من فريدريك، واستقرّت الأحوال السياسيّة مؤقّتاً، تفرّغ الامبراطور لقضيّة لوثر واستُدعي الاخير سنة 1521، إلى محكمة في مدينة ورمز. تلّخصت قرارات المحكمة بدعوة لوثر ليعيد النظر في تعاليمه ويتراجع عنها. وبرفض لوثر لهذا الطلب، وقع الملك فريدريك بين المطرقة والسندان، فمن ناحية كان صديق تشارلز وهو الذي ساعد في انتخابه، لكن من الناحية الأخرى كان فخوراً بجامعة ويتنبرج التي أسّسها بنفسه، خاصةً وأنّ شهرتها أخذت تزداد كثيرًا تحت قيادة لوثر، الذي اعتُبر بطلاً محليّاً بنظر الكثيرين في مقاطعة سكسونيّة. قرّر فريدريك، في النهاية، الوقوف في صفّ لوثر وحمايته من الاعتقال، مُعرّضاً نفسه، ليس لتهمة التجديف على الكنيسة فحسب، بل لمواجهة (ربّما حربيّة) مع الإمبراطور أيضًا.
لكن مرّة أخرى سارت الرياح (بالنسبة للوثر) بما تشتهي السفن، فمنذ اللحظة التي رجع فيها الإمبراطور من ورمز ولغاية سنة 1530 (أي مدّة تسع سنوات)، لم يهدأ له بال، فقد كانت جميع حدود إمبراطوريته مهدّدة، تارة من الاتراك، وتارة أخرى من إنكلترا وفرنسا والبابا نفسه. فكان تشارلز بأمسّ الحاجة إلى مساعدة عسكريّة من الألمان. كنتيجة لذلك، اضطرّ للتعهُّد بعدم القيام بأيّة خطوة ضد لوثر وأتباعه حتى انعقاد مجمع كنسيّ. ومن المهمّ أن نتذكّر أنّه خلال كلّ هذه الفترة أُتيح المجال للوثر لنشر تعاليمه واعتراضاته على الكنيسة الكاثوليكيّة.
مجلس أوغسبرغ
انعقد عام 1530، مع نهاية الحرب، مجلس آخر لمتابعة قضيّة لوثر وأتباعه. مُنع لوثر من حضور هذا المجلس الذي يبحث قضيّته، وقام بإرسال أحد تلاميذه الذي يُدعى فيليب ميلانكثون، الذي وضع أمام المجلس اقتراحاً يُدعى "إقرار أوغسبرغ"، قدّم فيه بعض التنازلات. إلّا أنّ هذا الاقتراح رُفض، وبدلاً من الوصول لتسويّة، أمر الإمبراطور تشارلز كل البروتسنت بالرجوع إلى الكنيسة الكاثوليكية خلال سنة واحدة من تاريخ اصدار القرار.
كان هذا الطلب سخيفاً وساذجاً نوعاً ما، فحركة لوثر وتعاليمه كانت قد انتشرت خلال مدّة تجاوزت العشر سنوات، مُستغلّة تطوّر الطباعة والاستقلال السياسيّ النسبيّ التي كانت تحظى به ألمانيا، في الوقت الذي كانت فيه بقيّة بلدان أوروبا غارقة في فوضى الحرب والصراعات الداخليّة. مدن كاملة في المانيا كانت قد تحوّلت من الكاثوليكيّة الى البروتستنتيّة، أغلب رجال الدين أتباع لوثر تزوّجوا، وأُلغي نظام الرهبنة، وتحوّلت الأديرة لمؤسّسات أخرى تستعملها الكنيسة. أضف إلى ذلك أن التهديد من الإمبراطور أصبح من الممكن تجاهله وذلك بسبب ظهور حرب جديدة في الأفق!
واجهت الإمبراطوريّة في سنة 1532 تحديًّا عسكريًّا جديدًا، إذ أنّ الأتراك رجعوا ليهدّدوا الحدود الشرقيّة لأوروبا. فقام تشارلز بالتوقيع مع فريدريك الحكيم على ما يُعرف بوثيقة "سلام نوريمبرغ"، لكي يضمن الدعم الألمانيّ والاستعانة بالجنود الألمان. وقد نصّت الوثيقة على عدم قيام الامبراطور بأيّ إجراءات تتعلّق بمجلس أوغسبرغ حتى يلتئم مجمع كنسيّ جديد. وهكذا استمرّت الاوضاع مع لوثر بين كرٍّ وفرٍّ، بين اصدار قرارات تأمره بالتراجع عن تعليمه والرّجوع للكنيسة الكاثوليكيّة تارةً، وبين تجميد هذه القرارات تارةً أخرى، دون أن يتمكّن الإمبراطور أو الكنيسة من وضع يدهم عليه.
"سلام أوغسبرغ"
توفّي لوثر سنة 1546، لكن حركته كانت قد تأسّست تأسيسًا جيّداً. وأصبح الخلاف بين الكنيسة البروتستنتيّة والإمبراطور غير متعلّق به شخصيّاً. وبعد وفاته بنحو عشر سنوات تمّ التوصل إلى اتفاق بين أتباع لوثر والامبراطور، يضمن فيه الحريّة الدينيّة، وذلك من خلال ما يُعرف بـ "سلام أوغسبرغ"، الذي نال البروتستنت بحسبه اعترافًا في المناطق التي يحكمها أمراء بروتستنتيّين. وكنتيجة لهذا الاتفاق، السياسيّ-الدينيّ، حدثت حركة هجرة كبيرة من منطقة لأخرى، فالبروتستنت الذين كانوا يعيشون في مناطق كاثوليكيّة انتقلوا للعيش في منطقة بروتستنتيّة، والعكس بالعكس.
وأخيراً...
يجب أن لا يُفهم ممّا تقدّم أنّ الأوضاع السياسيّة هي التي أدّت الى نشوء الإصلاح البروتستنتيّ. فالاصلاح جاء في الأساس كردّة فعل على الفساد الكنسيّ، والدينيّ، والماديّ، والسياسيّ الذي دبّ في الكنيسة في ذلك الوقت. أمّا الأوضاع السياسيّة المذكورة سابقًا، فلعبت دوراً في تمهيد الطريق وفتح المجال لنشر التعليم، وبدونها لم يكن للوثر ولا لحركته الفرصة للامتداد والانتشار. فهل سمح الله برعايته وعنايته بهذه الأوضاع ليتسنّى للوثر من نشر تعاليمه؟ أترك هذا السؤال للقارئ للإجابة عليه.